اذهب الى القاهرة لتجد ضالتك

بانوراما 2020/05/16
...

ترجمة: مي اسماعيل  تايلور لاك 
 
أحب الانسان تزيين الجدران، منذ رسم على جدران الكهوف حتى الفن الحديث، وفي القاهرة تحكي منتجات صانعي الخيام قصة تاريخ مصر الثري. 
يحفل سوق الخيامية بالقاهرة بمنسوجات فاخرة توضع برقة وتخاط لتصور حَمامَات زاهية الالوان ومزهريات الورود وتراكيب هندسية تشبه المتاهات، وكتابات تمجد الله العظيم. لكنها ليست ديكورات صنعت لتوضع في القصور أو المتاحف؛ بل لتزيين جدران الخيام. يمر الماشي عبر سوق الخيامية المسقف (ويعني اسمه حرفياً: صانعو الخيام) بين أزيز الدراجات النارية وعربات التك تك المتهادية، ليسير في رحلة ملونة بين ثقافات وحضارات مرت بمصر والعالم الاسلامي الواسع. 
تتدلى من صفوف المتاجر المتراصة المنسوجات والاعلام، وأغطية الوسائد المزينة بالاشكال الهندسية وكتابات بالخط الكوفي والدراويش الاتراك الدائرين، وطواويس ملونة وصور فرعونية وحروف هيروغليفية. يرى صانعو الخيام أن تلك الحقب التاريخية المختلفة وتصاميمها وتقنيات انتاجها تتطلب التدريب والدراسة، وهي مصدر الهام دائم. يقول حسام فاروق وهو يطرز صورة قلنسوة أحد فلاحي قرى النيل الأعلى في متجره: “قد يستلهم البعض تصاميم الأرابيسك” (التزويق أو الزخرفة بنماذج معقدة متداخلة ومتقاطعة، تميز الفن والعمارة الإسلامية). المترجمة، وآخرون من صور الحيوانات، بينما يركز غيرهم على الخطوط العربية؛ وهذا هو فنّهم. ولكن يمكنك النظر الى رقعة فارغة وتأخذ من أي واحد من هذه التصاميم أو من جميع حقبها؛ لترسم لنفسك لوحتك الخاصة، وتروي قصتك الذاتية التي لا يرويها سواك”. 
 
قصور متحركة
يمتد فن صناعة الخيام بمصر الى تاريخ تأسيس مدينة القاهرة ذاتها؛ فعاصمة مصر الاسلامية الأصلية التي أسستها الجيوش الاسلامية في القرن السابع الميلادي كانت تدعى “الفسطاط” وتعني- الخيمة، وهي اليوم احدى مناطق القاهرة القديمة. لكن فن صناعة الخيام لم ينطلق بصورة كبيرة حتى وصول الفاطميين الى السلطة وتأسيس القاهرة الجديدة خلال القرن العاشر الميلادي. طلب الحكام الفاطميون من الفنانين المحليين أن يخيطوا لوحات من أقمشة ملونة ومنسوجات مطرزة لتكون ديكورا داخليا فنيا للخيام. استخدم الخياميون أصباغا طبيعية لينتجوا تدرجات اللون الاحمر القاني والزعفران للألوان الصفراء. وذهبوا الى حد طحن الخنافس الملونة لينتجوا منسوجات من مصر، وجلبوا الحرير من مناطق بعيدة ليصنعوا لوحات جريئة ومزخرفة احتفي بها بقدر الذهب! 
استخدم الحكام الفاطميون (وبعدهم الايوبيون) تلك اللوحات والمنسوجات كقصور متنقلة وصالات متحركة فخمة يأخذونها معهم؛ الى ساحات القتال أو الى شوارع القاهرة لاستقبال أفراد الشعب خلال الاحتفالات الدينية والانتصارات العسكرية. لا مكان هنا لمعدات التخييم ذاتية الصنع خفيفة الوزن المصحوبة بتعليمات التركيب؛ فتلك الخيام الكبيرة متعددة الغرف كانت تستدعي نحو مئة جمل لحملها وعشرات الرجال لنصبها؛ وفقا للروايات التاريخية عن تلك الحقبة. كان صانعو الخيام اناسا محترمين ومتنفذين؛ فقد كان من الجيد أن يكون المرءُ خيّاميا. واخيرا استقر الخياميون في شارع واحد عند مدخل باب زويلة بالقاهرة الفاطمية، وهم هناك حتى اليوم. تغيرت تصاميم الخيام خلال القرن الثالث عشر مع صعود المماليك الى السلطة؛ وهم طبقة من المقاتلين الذين تحولوا الى طبقة من الحكام. وقد فضّل هؤلاء تصاميم الزهور الدقيقة والتوريقية المعروفة بالأرابيسك، بألوان صفراء وخضراء وحمراء جريئة. وعند قدوم العثمانيين الذين احتلوا القاهرة مع اجزاء كبيرة من العالم الاسلامي عند القرن السادس عشر، تغير فن صناعة الخيام مرة اخرى. طلب اولئك الحكام الاتراك أن تكون لوحات الخيام بألوان الباستيل الفاتحة الزاهية، من الازرق المتدرج والاخضر المزرق والوردي، وأن تمثل زهورا وحيوانات من خارج البيئة المصرية. 
بلغت شهرة صانعي الخيام المصريين بصفتهم فنانين مهرة حتى جرى تكليفهم بخياطة “الكسوة”؛ وهو الثوب الاسود المطرز بالحرير والذهب وخط القرآن الذي يغطي الكعبة في مكة. وفي كل عام عند موعد الحج يقود سلطان القاهرة الحُجاج ويحمل معه الكسوة الجديدة على قافلة مزينة، ليقطع رحلة الالف ميل (على الاقدام والجِمال)لاستبدال كسوة العام الماضي خلال احتفال فخم. ثم جاء ظهور القوى الامبريالية والسيطرة الاوروبية على مناطق شمال افريقيا تزامنا مع انحسار العثمانيين بنقطة تحول اخرى للخيامية.
 
إحياء الفن
تحول العديد من صانعي الخيام بالقاهرة في ذلك العصر بعيدا عن الهندسيات الاسلامية أو نقوش الزهور العثمانية لصالح مناظر تناسب مخيلة الزوار الغربيين الرومانسية عن مصر؛ ومنها- صور الفراعنة والجمال وأبي الهول والجعلان (الخنافس التي ظهرت في النقوش الفرعونية. المترجمة) والكتابة الهيروغليفية، ومنظر فلاحين يقودون حميرا على شاطئ النيل. كان ذلك التحول نابعا من التوجه العملي وليس من منطلق استيعاب الاستشراق؛ فبغياب الطلب من الطبقة الحاكمة بداية القرن العشرين، اتجه الخياميون الى تصاميم تستقطب انظار السياح الاوروبيين الباحثين عن تذكارات “غريبة”. 
لكن هذا الفن بات منسيا بحلول منتصف القرن الماضي، ولم يجرِ استدعاء صانعي الخيام حينها سوى لاعداد لوحات مبهرجة صارخة لتستخدم في حفلات الاعراس أو خلفيات العروض الموسيقية. مؤخرا فقط تنامى التقدير لعمل الخيامية واستعاد فنهم تقييمه. خلال العقد الماضي عرضت وزارة الثقافة المصرية أعمال الخيامية الفنية في معارض متنقلة وفي المؤتمرات الاسلامية، وظهرت أعمالهم الأقدم عمرا في متاحف مدن بعيدة، منها كوالالمبور وهونولولو. ورغم أنهم لم يعودوا بحاجة الى صالات استقبال ملكية؛ يعود القاهريون الآن الى سوق صانعي الخيام لتلبية حاجة أكثر تواضعا وأكثر الحاحا: المفروشات المنزلية. يمكن اليوم أن يرى المرء سكان القاهرة يتجولون مستكشفين سوق الخيامية، أو يقدمون طلبات خاصة لتصاميم الوسائد والاغطية واللوحات الجدارية لمنازلهم؛ لتجميل غرف الجلوس أو الطعام، أو ابهار الضيوف عند قدوم شهر رمضان أو رأس السنة الجديدة أو العيد.
 
كل شيء يتعلق بالغُرز
ما زالت حرفة الخيامية حتى اليوم عملا يدويا بالكامل؛ إذ يرسم الصناع المهرة التصاميم بالطباشير على القماش، وقد تقوم نساء الاسرة أو الجيران بأعمال القص والخياطة، أو يعتمد الخياميون على أنفسهم لانجازها. ولكن لا جدال انه لن يكون خياميا معترفا بمهارته ما لم يتفوق بانجاز غرز الخياطة والتطريز. يقول أحمد فتّوح ،الذي تبع خطى والده ودخل المهنة بسن الرابعة عشرة: “يجب أن يتدرب المرء أولا كفنان، ثم حرفي يعمل بيديه؛ فاذا أخطأ بغرزات خط واحد سيضيعُ عمل اسبوع كامل”. وكما كان عليه الحال في القرن الثاني عشر، يتطلب التصميم الهندسي البسيط عمل يوم واحد؛ بينما تستغرق اللوحات الأكبر حجما وأكثر تعقيدا نحو ثلاثين يوما ليتم انجازها. 
سواء كان الزبون أميرا أم سائحا؛ يلتزم الخياميون بمبدئهم القديم: لا تستعجل بتنفيذ الغرزات. يسترسل حسام فاروق قائلاً (وهو يطرز منقار طائر من قماش ).”انه فن لا يمكنك الاستعجال فيه؛ فاذا تسرعت بالعمل تظهر النتائج في الغرزات والتصميم والتناظر.. ولا يمكنك بالتأكيد انجاز فن ألف سنة خلال يوم واحد”. 
صحيفة كريستيان ساينس مونيتور الاميركية (من القاهرة)