أخذت سارة عيتاني، سوار ابنتها ذات العامين الصغير المنقوش عليه اسمها “إنجي” بحروف متصلة وأعطته الى تاجر الذهب لكي يزنه، مع واحد من أساور زفافها وبعض قطع الذهب التي تعود لابنتها، ليعرض عليها التاجر مقابل مجموعتها المتواضعة تلك مبلغ 84 دولاراً فقط، أخذت سارة النقود، وأسرعت الى المستشفى لتشتري الدواء لابنها الصغير.
تقول عيتاني بعد أن أصبح زوجها عاطلا عن العمل بعد الاغلاق الذي تم فرضه في لبنان بسبب تفشي فيروس كورونا، بأنه ليس أمامها حل آخر لتدفع ثمن ثلاث جرعات من الدواء الذي يحتاجه ابنها وبشدة.
في معظم دول منطقة الشرق الأوسط، دفعت الضغوط الاقتصادية بسبب الجائحة العديد من النساء الى اليأس فاضطررن لبيع ذهبهن.
الحليب مقابل الذهب
جعلت الإجراءات الصحية العامة والصارمة، التي خلفت تراجعا اقتصاديا حادا منذ الخريف الماضي، الكثير من الاسر اللبنانية، بدون مصدر للدخل.
ذكر العشرات من صائغي الذهب من مختلف أنحاء بيروت أن مشترياتهم من المصوغات الذهبية ازدادت كثيرا بعد فرض الإغلاق في آذار الماضي، ما أرغم العديد من الأعمال لإغلاق أبوابها وتسريح العاملين لديها، لتلتفت عيتاني، كغيرها من النساء، الى سلاسلهن الذهبية الرقيقة وأساورهن، حتى ان البعض منهن خلعن خواتم الزواج، وتوجهن بها الى الصاغة.
منذ أكثر من أسبوع، يرقد ابن سارة في المستشفى، يعاني من الألم، قبل أن يشخّص الأطباء حالته بمتلازمة كاواساكي، وهو مرض التهابي نادر، لكن، الدواء باهظ الثمن، والكلام لعيتاني، ولا تمتلك اسرتها تأميناً صحياً ولا دخلا من عمل زوجها السابق في متجر الملابس، ولم يتبق لديهم أي نقود لينفقونها: “لقد أخذوا كل ما لدينا في المستشفى” قالت اثناء انتظارها انهاء اجراءاتها مع الصائغ الذي اشترى ذهبها الشهر الماضي، والذي باعه، بدوره، الى مشترٍ آخر سيقوم باذابته ومن ثم بيعه مرة أخرى الى تاجر جملة كشركة بوغوص، بمنطقة برج حمود ذات الغالبية الأرمنية ببيروت.
يشير كريس بوغوص، ابن مالك الشركة: “نحن في لبنان، نعيش أزمة بالفعل، الناس التي بحاجة الى المال لشراء الحليب ودفع بدل الإيجار تضطر الى البيع” مضيفا بأنهم شاهدوا نساء يخلعن خواتم زواجهن من أصابعهن ويبعنها مباشرة.
الناس جاعت
بالنسبة لنساء الشرق الأوسط، تحمل عبارة “ذهبها” وزنا أي معنىً يفوق وزن المعدن النفيس، اذ غالبا ما تكن هدايا المواليد الجدد من الفتيات من الذهب كالاقراط والقلائد، وفي الغالب، اساور رقيقة تحمل اسماءهن. كتقليد متبع، تتلقى العروس “مهرا” من العريس واسرته، عبارة عن اقراط وسوار او قلادة و”ذهبها” هذا يمثل لها الامان وهو ملجأها الاخير في الاوقات الصعبة كالطلاق او وفاة زوجها. فحين تبيع امرأة متزوجة “ذهبها” والذي غالبا ما تقوم به مع شعور ينتباها بالخزي والعار، فهذا يعني انها قد استنفدت كل الخيارات الاخرى، كما يفسر، احيانا، على انه خذلان الزوج لاسرته.
مع تزايد اعداد النساء الراغبات ببيع ذهبهن بشكل عاجل، فان محال الصاغة تواجه صعوبات في اتمام أعمال البيع والشراء بسبب الاغلاق، ما اجبر بعض الصاغة على اجراء عمليات التقييم والشراء من منازلهم. يقول محمد حوري، صائغ في بيروت، وهو جالس خارج متجره المغلق ليستقبل زبائنه: “الناس جاعت، وتريد اطعام اطفالها”.
وفي بغداد، يقول الصائغ حيدر كاظم بانه كذلك شهد ارتفاعا في مبيعات الذهب من قبل الاسر اليائسة والتي فقدت عملها بسبب الحظر الصحي الذي فرض جراء تفشي وباء كورونا. “انهم يبيعون “ذهبهم”، ليس بكميات كبيرة، لكن القطع البسيطة منه كالخواتم والأقراط، قطعا قد تكفي ليحصلوا مقابلها على مبلغ 300 دولار تكفيهم لتأمين الطعام على الاقل”، مضيفا بان الذهب “غالبا ما يكون ذهب الزفاف، والذي يفترض أن يكون للنساء في اوقاتهن الصعبة”.
زار ابو صلاح (51 عاما)، عامل وقد خسر عمله الربيع الماضي، متجر حيدر، بعد أن سمحت له زوجته ببيع ذهبها الذي كان هديته لها في زفافهما منذ 30 عاما، يقول: “منذ كنا شبابا، تعلمنا ان الذهب ملك للزوجة فقط، ولا يمكن للرجل التصرف به”، مضيفا “أشعر بأني لست رجلا لقيامي بهذا الامر، فعلى الرجل أن يكون قادرا دائما، على اعالة اسرته دون المساس بذهب زوجته، أشعر بالخجل من ذلك، لكن لا خيار آخر لدي”.
لكل قطعة قصة وأثر
وفي سوريا، يقول غسان جزماتي، رئيس الرابطة الحرفية لصياغة الذهب والمجوهرات في دمشق، ان السوريين يبيعون ذهبهم أيضا، وهو التوجه الذي يعكس مدى حاجة الناس الماسة الى المال لتلبية الاحتياجات الاساسية لهم، كالغذاء والدواء، وسط ازمة اقتصادية في البلاد ناتجة عن تسع سنوات من الحرب والجائحة.
جرت معظم عمليات البيع والشراء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، على عكس الدول المجاورة، وقد عرضت المجوهرات بأسعار زهيدة جدا وخشي التجار من انهيار السوق ما دفعهم للضغط على الحكومة لاعادة فتح المتاجر التي اغلقت لمكافحة الوباء.
تسبب انتشار الجائحة بارباك سوق الذهب بعموم اسواق دول الشرق الاوسط، اذ ظل سوق دبي للذهب، والذي يضم نحو 400 متجر للبيع بالتجزئة، خاليا، غالبا، من المشترين حتى بعد اعادة فتحه في نيسان الماضي. وفي مصر، تراجع انتاج الذهب بعد تراجع الطلب المحلي عليه، ويعود السبب جزئيا، لتأجيل الكثير من حفلات الأعراس وغيرها من الاحتفالات.
تحدثت سيدة من مصر، اشترطت عدم الافصاح عن هويتها، وهي في طريقها لبيع 100 غرام من الذهب وقد انفجرت بالبكاء: “كل القطع عزيزة على قلبي، لقد اشتريتهم من مالي الخاص، وهذا يؤلمني أكثر” مضيفة “كل قطعة لدي لها قصة وكل قطعة لها أثر في داخلي” لكنها تقول انه ليس لديها خيار آخر.
* صحيفة واشنطن بوست الأميركية