قراءات في سِيَرِ الروّاد

اسرة ومجتمع 2020/07/14
...

 
حسين الصدر
 
 
- 1 -
في سِيَر الأبرار والصالحين مشاهد ومواقف ودروس تهّز النفس وتُحرّكُ الوجدان وتبهر بشموسها العيون الساطعة وصورها الرائعة .
ومن هنا فان السياحة في دنيا العظماء وحكاياهم وأخبارهم وأسرارهم تعتبر من أهم الروافد على صعيد الاثراء الاخلاقي والانساني والاجتماعي..
فضلاً عن المردودات الايجابية الاخرى .
- 2 -
ونحن في هذه المقالة الوجيزة نقف على شيءٍ من اخبار (لقمان) هذه الامة – على حد تعبير ابي بكر الوّراق – الزاهد الكبير المعروف بحاتم الأصمّ وهو ( حاتم بن عنوان) .
ولقد لقبّ بالأصمّ لقضية وقعت مع امرأة جاءته سائلةً عن بعض المسائل وأتفق أنْ سُمع منها صوتٌ في تلك الحالة فكادت تذوب خجلاً وحياء فما كان من (حاتم) الا المبادرة الى انهاء معاناتها وحالتها النفسية الصعبة حيث خاطبها قائلاً :
ارفعي صَوْتَكِ
وأوهمها انه أصمّ ففرحت المرأة بذلك وقالت :
« لم يسمع الصوتَ ، فغلب عليه اسم الصمم «
والمهم هنا : هو حرص حاتم على ابعاد شبح المعاناة عن المرأة في منحى انساني واخلاقي واضح .
وهذا الموقف غنّي بعطاءاته .
انّ صاحب النفس الكبيرة والخلق والأصيل يأبى أنْ يرى انساناً تجتاحه عواصفُ الخجل ، وتفترسه مخاوف السقوط من الاعين والفضيحة ، دون أنْ يُسارع الى نقله من خندق المعاناة الى خندق الارتياح والاطمئنان ويطرد عنه كل تلك الاشباح ..
انّ المرأة المذكورة يمكن أنْ تقع فريسة للاستهزاء والاستخفاف اذا وقع منها ما وقع امام ثلة ممن لا يُعْنون بالحفاظ على ماء الوجوه..
وهذا هو الفرق بين الأصيل والدخيل، وهو الدرس الثمين الذي يفرض نفسه على كل التوّاقين لامتلاك ناصية الآداب والاخلاق ..
- 3 -
وجاء في التاريخ :
انّ (احمد بن حنبل) – إمام الحنابلة المعروف – سأل حاتم الأصم حين قدم الى بغداد عن طريقة السلامة من الناس والتخلص منهم ، فقال له الأصم:
« يا ابا عبد الله في ثلاث خصال 
قال :وما هي ؟
قال : أٔنْ تُعطيهم مالكَ ولا تأخذ من مالهم شيئاً
قال : وتقضي حقوقَهم ولا تستقضي منهم حقاً .
قال : وتحمل مكروههم ولا تُكره واحداً منهم على شيء .
فاطرق احمد ينكت باصبعه الارض ثم رفع رأسه وقال :
يا حاتم ..انها لشديدة 
فقال له حاتم : وليتكَ تسلم وليتك تسلم وليتكَ تسلم 
لقد رسم حاتم خارطة الطريق ذات الاضلاع الثلاثة :
ان تكون يدك هي العليا فتعطي ولا تأخذ
وأنْ تقضي حوائج الناس دون ان تكلّفهم بشيء
وان تتحمل منهم المكاره دون تحمّلهم شيئاً منهم
ومع ذلك كلّه فقد لا تسلم منهم جميعاً
ونلاحظ هنا:
أولاً : ان العلماء – ومنهم احمد بن حنبل – حريصون على الافادة من تجارب وحكمة الابرار والصالحين وهم يسعون اليها – وبكل شوق ولهفة – في حين ان الكثرة الكاثرة منّا يأٔنفون من ذلك ويغطّون في سبات عميق .
ثانياً  : ان المجتمعات البشرية لا تضم في صفوفها الطيبين فقط بل تضم الطيبين والخبثاء ، وهؤلاء لا يسلم منهم أنبل الناس .
وهذا ما عبر عنه ( الاصم ) 
بقوله (لاحمد بن حنبل) وليتكَ تسلم..!!
انّ هناك من يكافئ الحسنةَ بالسيئة فانتَ تُعطيه وتُحسن 
اليه بينما هو لا يُقابِلُكَ الا بالاساءة..!!
ومن منّا من لم يسمع بالحكمة القائلة :
( اتق شرَّ مَنْ أحسنت اليه )
وانت تسعى وبكل اخلاص لتقضي حاجته دون ان تكلفّه بشيء وتتحمل منه ما تتحمل بصبر واناة ..
ومع ذلك كله لن ترى منه ما يعجبك ..!!
لانه لا يحفظ اليد ، ولا يثمن النبيل من المواقف والمشاعر والمناقب
وانّ من ابرز الجاحدين في واقعنا الراهن هم اولئك المتسلقون على الاكتاف ...اكتاف المواطنين اصحاب الاصابع البنفسجية، الذين سارعوا لايصال حفنة من النرجسيين الى المواقع العالية ليُمثّلوهم فاذا بهم يقلبون لهم ظَهْر المجنّ ويحتجبون عنهم ويتفرعون لتكريس ذواتهم على حسابهم معتبرين اكتناز الاموال والمكاسب والامتيازات مهمتهم الاولى..!!
ثالثاً : ان التاريخ سجّل لحاتم الاصم مواقفه الحميدة، وأكبرَتْهُ الاجيال جيلاً بعد جيل، وكفاه ذلك مجداً .
اما من حاد عن الجادة ،ولم يستقم في المسار ، فهو مذموم محتقر من قبل مجايليه ، ومستهجن السيرة من الاجيال الطالعة.