قيصر أبو طبيخ.. بلاغة الأداء الشعري

بانوراما 2020/07/20
...

هدى عبد الحر
 
 
 
بين يدي مجلة (السنبلة) العراقية، العدد (55) لعام 2014، وهو عددٌ خاصٌ عن الأكاديمي والمؤرشف والباحث الكبير المرحوم الدكتور صباح نوري المرزوك (1951 - 2014)، وقد تضمن بين طياته قصائد كثيرة فضلاً عن المقالات والدراسات. ومن بين القصائد (شباك موسى) للشاعر قيصر أبو طبيخ في صفحة (63). هذه القصيدة استوقفتني طويلاً منذ مطلعها العذب الذي جاء متحركاً صاخباً بالحركة والحياة:
كان الحديد وكان موسى يمطر وهنالك طفل للرصافة يعبر
والنهر مخضر وأجمل ما به عينان لونهما كعشقي أخضر
وهما يضمان الحضارة كلها من أنت.. سائلتا.. أنا المتحضّر
حتى ختامها الجميل:
وسمعت (اللهم) منه كأنها وتر ببحر اللانهاية يبــــــــــــحر
شباك موسى لا يزال ولم يزل بــــــجواره الطفل الذي لا يكبر
وما بين المطلع الآسر والختام المتقن ثمة كلامٌ كثير يمكن أنْ يقال بشأن هذه القصيدة التي أراها متميزة جداً ومكتنزة بكل مقومات الجمال بدءاً من عنوانها: (شباك موسى) وهو جملة بسيطة لكنها تأخذ المتلقي نحو مديات واسعة حيث دلالة الشباك ودلالات (موسى) التي تتراكم في ذائقة وذاكرة القارئ.
تكونت القصيدة من خمسة عشر بيتاً، من البحر الكامل بتفعيلاته التي تمتاز بالفخامة والجلال: (متفاعلن، متفاعلن، متفاعلن) وقد جاءت على شكل مشهد شعري بلغة رائقة جداً لا تشكو من تعثر أو خلل وبأسلوب سلس لا يعاني من تعقيد أو ركاكة، إذ يستعمل فيها الشاعر عناصر المشهد بدقّة وحرفية عالية من موضوع وصراع وشخصية وزمان ومكان، وكأنَّ الشاعر أراد أنْ ينسجَ لنا لوحة شعريَّة ذات طبيعة سرديَّة تحمل من الإتقان الكثير.
وقد بُنيت القصيدة على مشهد استرجاعي بدأ بالفعل الماضي (كان) الذي كُرّر مرتين لتكثيف العودة إلى الزمن الماضي التي ظهرت وكأنها عودة حُلمية جميلة يشوبها الحنين
الجارف.
أما الحوار الذي جاء عبر الأفعال (قالوا.. أجبت.. سمعت) فقد جاء مكثّفاً زاخراً بالمعاني ممتلئاً بالدلالات، إذ أظهر الشاعر من خلاله عواطفه الأصيلة البريئة التي تعلّقت بحب إلهي وكأنه متصوف يعرج في سماوات لا متناهية من القدسية.
ولعلَّ أكثر ما يلفت النظر في هذه القصيدة العذبة هو الإيقاع الساحر الذي وظّف له الشاعر كل الإمكانيات فظهرت مثل التكرار، إذ ظهر تكرار بعض المفردات وكأنه ضرورة لا غنى عنها في القصيدة مثل (كان – مضى - فكر – قال - حب – مقدس - زال)، كما وظّف تكرار الحروف بنسقٍ يدعو للإعجاب حقاً، إذ تناغمت القصيدة بتموسقٍ ساحر: (طفل – يمطر – يضمان - الحضارة –المحضر – مضى - مضيت – دنيا - دار – دوره – قالوا.. قال...)، هذا فضلاً عن القافية التي جاءت وكأنها تعطي مساحة للحكاية أنْ تستمر أكثر مع وقع (الراء) نهاية كل بيت:
في الدفتر المخبوء تحت قميصه سر سماوي ووجه أســــــــمر 
الحب كان إذن صديق طفولتي الحب كان.. فهل سيرضى الدفتر
إنّ إمكانيات الشاعر الشعرية كبيرة جداً وتعِدُ بالكثير، فهو شاعر جزل المعاني اجتاز عن دراية وخبرة كل ما يمكن أنْ يؤذي القصيدة ويمنع معانيها الصافية من الوصول للمتلقي.
وهذه القصيدة علامة مهمة في منجزه ففيها توحّد كبير مع الذات التي تُشغف عشقاً بالمقدس وتهيم في بحور الوجد الصوفي ويظهر فيها تمكنه من اللغة ومعرفته بأسرار الحرف وطاقته 
الكبيرة:
قالوا وقال لهم وغنى وانتشى وأحب.. يا للحب كيف يفسر
صلى على ذكر الحبيب. وضوئه دمع.. وبالزفرات كان يكبر
ولعلَّ الخاتمة التي أرادها الشاعر وكأنها (بيت القصيد) تثبت هذه الإمكانية في الدوران حول المعاني الدقيقة:
شباك موسى لا يزال ولم يزل بــــــجواره الطفل الذي 
لا يكبر