البحث عن العلاقات المعرفيَّة بين الموروثات

ثقافة شعبية 2020/07/21
...

 
جاسم عاصي
 
 
نتاج العلاقات والتأثر
للعلاقات ناتج يخص البنى الفكرية التي أنتجت مثل هذا الحراك . فالمجتمعات البدائية مارست طقوسها المتحولة إلى شَعيرات عقائدية ثم دينية، هي أساساً دالّة على حراك العقل إزاء الطبيعة والوجود ،ثم الإجابة على الأسئلة المقتحمة وجود الإنسان. فهو استجاب لها عبر عقله البري، ثم الزراعي، بعدها الصناعي.. وهكذا. ما نتوصل إليه هنا هو علاقة كل هذا الحراك بالفكر المنتَج على مستويات متعددة في تاريخ الشعوب. ولعل التراث الشعبي اكتسب أهميته عبر علاقته المباشرة بحياة الناس ويومياتهم. فمنها التوفر على اللذة الروحية، والأخرى لإراحة النفس، أو التنفيس عما يختلج في الذات. إن قول الزعيم الهندي الأحمر لـ (بندكت)؛ من أن كأسنا تكسر ، يعني أساساً بقيمة هذا الذي في الكأس. ثم مبررات تعرّض الثقافات الأُخرى المتسلطة دون إرادة الشعوب، ذات المحمولات الماحية لكل ما هو قومي رفيع، كالخاصية الشعبية والتاريخ الأُسطوري للشعوب ــ كما ذكر المؤلف ــ وجهد الباحث (بندكت) يشتغل على محور ما اشتغل عليه الباحث (جيمس فريزر)، سواء في الغصن الذهبي أو في مؤلفاته ذات المبنى الأنثروبولوجي. فهي دفاعات بحثية لسيرة موروثات الشعوب. وكان معظمها ميدانياً كما فعل (فريزر).
إنَّ هذا التاريخ الشعبي كان أساساً مرتبطاً بالتاريخ العام، بل ان بعضه شكّل تاريخاً كما هو للشعوب البدائية ،وسكنى الكهوف والمغاور، بما كانت تمارسه من فعل الصيد، ثم الزراعة ، والصناعة . أما علاقة كل هذا التراث بالأُسطوري، فهما لا ينفصلان عن بعض ،بالرغم من توفر كل جنس على مقومات ذاتية، فلمفردة التراث لغتها و أُسلوبها وذاتيتها، وللأُسطورة مثل هذا أيضاً .أما علاقتهما بالسحر والحقيقة ، في كون كل واحد منهما يتناول حقيقة ما تُمثل زماناً ومكاناً خاصين بها . لذا فمبرر ظهورهما مرهون بجدلية العقل. فكلاهما مرتبط بالعقل والحاجة الروحية ،وبالتالي بالحاجة والرابطة الاجتماعية. إن تمثّل كل منهما للواقع لا يختلف إلا في المبنى وتشكل الجنس .إن أساطير الشعوب تشكل أداة علمية في استخلاص عبرها ودروسها ، وهو ما أسفر عنه جهد (جيمس فريز) ومسيرته، سواء في البحث عن مواطن تلك الأساطير ،أو ترجمتها . لذا نجد أن حيويتها تنبثق من حيوية ونشاط محتواها الذي يُسفر عن عالم واسع يُثير المتلقي، ويبعث في ذاته سحر حقائق ما يطلع ويقرأ .وهو نوع من المثابرة التي بذل خلالها المؤلف جهداً لتوصيفه تلك العلاقات بين الموروثات مهما كان ضربها.
أكد الباحث خلال مبحثه هذا على تداول مستويات من العلاقات المنتجة للحقائق . فمن ذكره (حالة النشاط الذهني والسيكولوجي والاجتماعي والذي يصاحب التلفظ هو القدرة اللسانية الفيزيائية على الوفاء به )ص 16 
أي ان اللغة بايقاعها اللساني تنتج فكراً ، فاللغة والفكر يدوران في محور واحد، ينتج أحدهما الآخر. والأساطير وموروثات الشعوب لها لغتها ونسقها المعرفي. لذا وكما ذكر المؤلف ان التفكير باللغة والصوت اللغوي غير ممكن الحدوث دون اسناد المدرك الحسي وتحويله إلى المدرك الفكري، لذا نرى كما رأى الكاتب؛ ان الكلام المنطوق(الشفاهي) أكثر قدرة على الإبلاغ.
 وهذا ما يرشح كون الأساطير والطقوس والشَعيرات القديمة بدأت شفاهياً، كذلك الموروثات الشعبية بكل أصنافها ابتدأت وترسخت خلال التداول الشفاهي. إن الأمر الذي يميّز اللغة الشفاهية ؛ كوّنها تخضع للإضافات والصياغات الجديدة، فالشعوب برواتها تعمل على تطوير متنها الشفاهي، بما تخصبه من افرازات الأزمنة والأمكنة. فتداول أي ثيمة أُسطورية أو شعبية بين الشعوب يخضع إلى مبدأ التأثر والإضافة بطبيعة الحال. وهذا ما نجده من تطورات خضعت إلى المبنى الفكري مثل نبات (اللّفاح) التوراتي الذي خصب رحم (راحيل) زوجة النبي (يعقوب) وحملت بـ(يوسف) ــ ينظر في ذلك سفر التكوين من العهد القديم ــ وهو نبات كنعاني أصلاً، تطور بفعل التداول إلى (اليبروح) في بيئة أميركا اللاتينية. وهما يحملان الخصائص ذاتها رغم تباعد وجودهما الجغرافي. فالشعوب تخلق أساطيرها وهي أيضاً من ينقلها ويتداولها بإضافات مناسبة وهو ما نعنيه بجدلية الموروثات وجدلية فكرها المتطور.
من بين التفاتات المؤلف المهمة والتي حفل بها كتابه وهو يتناول إرث الآخرين ، ان الأُسطورة وهي نسيج مضطرب يقع خارج التاريخ(المعجزات) لا يلغي وجودها التجريبي . غير أن محاكمتها بالمنطق العلمي تبدو غير واردة ،لأنها كحقيقة يجري تداولها بين الشعوب لحاجة ذاتية بحتة ، ويتفق الباحث مع (مالينوفسكي)؛ من أن الأُسطورة تمثل تبريراً ويتفق الباحث معه ؛ كون الأُسطورة تمثل تبريراً يرسخ الاعتقادات والممارسات التي تؤلف عصب  التنظيم الاجتماعي (ص21)،  كذلك تكون الأُسطورة نتاجاً يتحكم فيها الزمان والمكان ، وليس بالإمكان تحول كل شيء إلى أُسطورة.
إنَّ هذا خاضع إلى التراكم الكمي والنوعي في حياة الشعوب فالتكرار يقود إلى فرز النوّع ومن ثم الإضافة، هكذا تُخلق الأساطير ،نتيجة الحراك الذهني مقابل الممارسات الطقسية. فالأُسطورة لا تموت، وهذا ما أكده(رولان بارت) في الأُسطورة اليوم و(مرسيا إلياد) في العود الأبدي.
كذلك تطرق الباحث في هذا الفصل الى مدى العلاقة بين الأدب والموروثات ، وعدّه محركاً معرفياً يعمل الكتّاب والشعراء على توظيفه في نصوصهم. غير ان هذا التوظيف مرهون ــ كما يرى المؤلف ونرى ــ بوعي متن الموروث ، وليس نقله إلى النص. فنص الموروث في هذا الجانب محفز لخلق أُسطورة نص الكاتب، وابتكار فضاءاته التي تنهل من سحر حقيقة الموروثات والتاريخ.
نرى أن الباحث باسم عبدالحميد حمودي كما عودنا في كتاباته من بين القلائل ،حيث يعمل على ربط الأجزاء بالكليات، فهو يُفكك الثيمة ، بقصد التوصل إلى مبانيها وفواصلها، وهو ما تجسد ليس في مهد التقديم ،وإنما في كل مباحث الكتاب. فمثلما دخل إلى الأُسطورة والموروث الشعبي، تناول الكثير من متون التراث عراقياً وعربياً وعالمياً برؤية الباحث الجاد، ما يُرشح مؤلفه (سحر الحقيقة) أنْ يكون مهماً ومتداولاً من بين مصادر الثقافة الشعبية.
• باسم عبد الحميد حمودي/ سحر الحقيقة / دار ميزوبوتاميا ــ بغداد 2014