الفرار إلى الضواحي والريف

اسرة ومجتمع 2020/07/26
...

صوفي غالاغار ترجمة: مي اسماعيل
 

فر الاغنياء من المدن على مر الزمان في اوقات المرض والمحن؛ ولكن هل كشفت لنا ظروف الاغلاق بزمن الجائحة عيوب العيش في المدن؟ ،اليوم بدأ شباب كثيرون ببريطانيا يكسرون أنماطاً مألوفة وينتقلون للعيش في الضواحي.
عاشت المدن لقرون عديدة ازمات دورية؛ فقد قتل الوباء الكبير نحو سبعين الفاً من سكان لندن، وفر الباقون الى خارجها، انتقل الملك «تشارلز الثاني» وحاشيته الى قصر «هامبتون كورت»، وانتقل البرلمان الى اوكسفورد، و توقفت التعاملات التجارية بين لندن وجميع المدن الاخرى المبتلاة بالوباء، واغلقت الحدود مع اسكتلندا، ولم يختلف الحال في اوروبا؛ فقد ارسل «لويس الرابع عشر» ملك فرنسا المقبل بعيداً عن باريس الى فرساي فراراً من وباء الجدري، وبعد قرون، نصح الاطباء ملك بريطانيا «جورج الخامس» (ذو الصحة المتداعية) بمغادرة العاصمة والسكن في برايتون؛ ليستفيد من هواء البحر؛ وهو امر انتهجه بعده علية القوم. وفي العصر الحديث خطط البعض لمغادرة المدن نحو الريف في ازمات مثل 11 ايلول وتفجيرات لندن عام 2005، وتصاعد الاهتمام بشراء العقارات في الريف، تلك التحركات كانت دائماً مؤقتة؛ ففرص العمل والثراء والتعليم التي توفرها المدن تجتذب أجيالاً من الشباب.. ولكن ماذا عن عالم ما بعد «كورونا»؟ وهل يعني توافر التكنولوجيا الحديثة وامكانية العمل عن بُعد من المنازل أن الرحيل عن المدن سيكون دائمياً؟
 
فيروس من المدينة
ارتبط انتشار فيروس كورونا بحياة المدن؛ فقد بدأ من مدينة ووهان الصينية ذات الاحد عشر مليوناً، ورغم أن أعداد الوفيات عالمياً لم تكن أعلى في المدن منها في المناطق الاقل اكتظاظاً (مع ان الفقر لعب دوراً اكبر في الخسائر من الكثافة السكانية)؛ لكن الدراسات تشير الى أن المدن كانت الاكثر تضرراً ، ففي بريطانيا اظهرت احصاءات دوائر الصحة العامة ان الوفيات في لندن كانت الاعلى من بين المقاطعات الاخرى، كذلك اتضحت صعوبات اخرى للعيش في المدن بفعل شروط الحجر الصحي؛ ومنها- العيش في وحدات سكنية صغيرة وقلة امكانية الوصول للحدائق (نحو 21 بالمئة من سكان لندن لا يملكون حديقة)، وتضخم الايجارات (الايجارات بلندن هي الاعلى في اوروبا)، وكثافة التراكم البشري الذي يزيد من صعوبة التباعد الاجتماعي. واذ تقل اهمية التواجد الفعلي في مكان العمل وتتناقص امكانيات الاستفادة من المنافع الغذائية والثقافية؛ تصبح مباهج العيش الحضري أقل وضوحاً.
يُفكر بيتر دي غرافت- جونسون (26 سنة، شاعر وسينمائي) بترك لندن والانتقال للعيش في الريف، بعد ست سنوات في العاصمة. ولانه كان ضمن مناطق عالية الانتشار بالجائحة؛ اضطر لقضاء ثلاثة اشهر في عزلة تامة، جاء جونسون للمدينة ليكون جزءاً من الفعاليات الثقافية ويلتقي نظراءه؛ لكنه (ورغم اشتراكه بالعديد من المناسبات الثقافية الناجحة) يخطط للعودة الى مقاطعته، قائلاً: «اعتقد ان العديد من الشباب يفكرون بترك المدن؛ لان الجائحة اعطتهم الدوافع وسلطت الضوء على عدم المساواة.. شرطة عنصريون وارتفاع تكاليف المعيشة وقلة المساكن الآمنة والمتيسرة». 
اما غريس بول (28 سنة، محررة) عاشت في لندن ست سنوات، فقد استعدت للعودة لمنزل والديها بمقاطعة «كنت» بعد انتهاء عقد ايجارها، ولا ترى انها ستعود للمدينة بعد الجائحة، قائلة: «اشعر بالامتنان لاني اصبحت من سكان المدينة؛ لكني ارغب بشراء منزل ولا يمكنني ذلك في لندن. 
اعمل اليوم من المسكن 
ولا حاجة لي بالعيش في المدينة». 
قادت الجائحة «بول» لاعادة تقييم خياراتها الحياتية؛ وكذلك الحال بالنسبة لـلوسي موس وزوجها «ساشا»؛ اللذين جعلتهما تجربة الاغلاق يفكران بنمط آخر للعيش مع اطفالهما.. خارج المدينة. 
تقول موس: «لم نضطر للتفكير هكذا قبل الجائحة؛ فقد ابقتنا المدينة منشغلين. ولكن الان ليس في المدينة شيء؛ وادركنا رغبتنا بالعيش قرب اصدقائنا واسرتنا».
 
دورة التنقل البشري
لم تكن الرغبة بمغادرة المدن نحو الريف وليدة زمن الجائحة؛ فقد كشف مكتب البيانات الوطني البريطاني «ONS” ازدياد اعداد البريطانيين الذين هجروا المدن في السنين الاخيرة، يشرح انتوني جامبيون استاذ الجغرافية السكانية بجامعة نيوكاسل نموذج “التصعيد الاقليمي” قائلاً: “الشباب هم الاكثر توجهاً للانتقال من الضواحي الى المدن لتحقيق تقدم مهني سريع مما يمكن تحقيقه في موطنهم، وفي مراحل لاحقة من اعمارهم يبيعون مساكنهم المدينية عالية الثمن (بفعل التضخم) ويتركون المدن؛ اما خلال مرحلة تأسيس الاسر (قبل انجاب الاطفال) او لاحقاً قبل التقاعد”.
 لكن احصاءات ما بعد الجائحة تكشف ان ما يجري اليوم ليس النمط المألوف من حركة التنقل البشري؛ فقد تضاعف عدد الباحثين عن عمل خارج العاصمة مقارنة بالعام الماضي، واظهر استفتاء أجري مؤخراً ان اشخاصاً من مختلف الاعمار (بعضهم مالكو منازل وبعضهم مستأجرون) يخططون لمغادرة العاصمة بعد انتفاء ضرورة السكن قرب موقع العمل، كذلك تضاعف عدد الباحثين عن سكن في الضواحي والمدن خارج العاصمة، وكذلك كان الحال في بعض المدن البريطانية الكبرى (مثل مانشستر وبرمنغهام) طبقاً لبيانات الوكالات العقارية. وكشفت الاستطلاعات ان اربعة من كل عشرة يرون المساكن القروية أكثر جاذبية، وان نحو 71 بالمئة من الشباب يرغبون بالمزيد من الاماكن المفتوحة والحدائق، لكن الامر لا يقتصر على امتلاك المنزل، بل نمط الحياة؛ وهذا ما كشفت عنه ظروف انتشار الجائحة وصعوبة العيش بالمدينة في ظل ظروف الاغلاق. 
كما  ساعدت التكنولوجيا الحديثة الكثيرين باعادة تقييم خياراتهم؛ خاصة بعدما اعلن العديد من اصحاب الاعمال اعطاء الحرية لموظفيهم باختيار العمل من المنزل، واعلن نحو 13 بالمئة منهم ان ذلك الخيار قد يصبح العرف السائد عما قريب؛ ما قد يؤجج بالفعل طفرة عقارية في الضواحي وهجر المساكن الحضرية. وسواء كان السكن في الضواحي مجرد حلم سببه زحام المدينة او استمراراً لدورة قديمة من التنقل البشري (يأتي الشباب الى المدن ويرحل عنها الشيوخ)؛ فان جائحة كورونا كشفت سلبيات العيش في المدن، وفتحت باباً، لن تكون الحياة بعده كما كانت قبله.
 
صحيفة الاندبندنت البريطانية