الكبرياء سبب سقوطها أوروبا كانت مستعدة لوباء «كورونا»

بانوراما 2020/07/29
...

ديفيد كيركباتريك ومات أبوزو  ترجمة: خالد قاسم
 

كشف الفيروس الثقة الخاطئة لدول القارة الأوروبية بنماذج معيبة والعمل البيروقراطي المجهد وثروات تلك الدول. وقف البروفيسور كريس ويتي، كبير المستشارين الطبيين البريطانيين، أمام قاعة محاضرات في لندن قبل عامين ليشرح الأوبئة القاتلة. بدءاً من الموت الأسود بالقرن 14 الى الكوليرا في اليمن حالياً كان سرداً تاريخياً جميلاً، لكنَّ البروفيسور ويتي كان مطمئناً بأنَّ بريطانيا لها حماية خاصة «لأنها ثرية». 
 
اكتسح القارة
رأى ويتي أنَّ الثروة «زادت قوة المجتمع كثيراً أمام الأوبئة» ونوعية الحياة مثل الطعام والسكن والماء والرعاية الصحية كانت أكثر فعالية من أي علاج بإيقاف الأمراض التي دمرت العالم النامي.
لم تكن ثقة البروفيسور ويتي شيئاً نادراً، ففي شباط الماضي التقى وزراء الصحة الأوروبيين ببروكسل لمناقشة فيروس كورونا المستجد في الصين، ومدحوا أنظمتهم الصحية ووعدوا بإرسال المساعدة للدول الفقيرة والناشئة.
لكنَّ الفيروس اكتسح القارة بعد شهر واحد فقط، وبدلاً من إرسال التبرعات وتوفير المساعدة للمستعمرات السابقة، أصبحت أوروبا الغربية بؤرة الوباء. والمسؤولون الذين تبجحوا باستعدادهم حاولوا بهلع تأمين معدات الوقاية ومواد الاختبار، مع ارتفاع معدلات الوفيات في بريطانيا وفرنسا واسبانيا وإيطاليا وبلجيكا.
لم يكن من المفترض حدوث ذلك، فخبرة وموارد غرب أوروبا كان من المتوقع أنْ توفر ترياق الأوبئة المتفشية والقادمة من المناطق الفقيرة. وشعر عدة قادة أوروبيين بأمانٍ كبيرٍ بعد آخر وباء، أي انفلونزا الخنازير 2009، لذلك قلصوا مخزونات المعدات.
لكنَّ تلك الثقة سببت خرابهم، وبنيت خططهم لمواجهة الوباء على سلسلة حسابات وافتراضات خاطئة. وتباهى زعماء أوروبا بتفوق أنظمتهم الصحية ذات المستوى العالمي لكنهم أضعفوها بعد عشر سنوات من التقشف. 
 
تدقيق فاشل
أثبتت آليات المحاسبة عجزها، فآلاف الصفحات من التخطيط الوبائي الوطني تحولت الى مجرد ممارسات بالعمل الروتيني. واكتفى مسؤولو بعض الدول بالرجوع لخططهم، بينما تجاهل قادة دول أخرى تحذيرات بشأن مدى سرعة انتشار الفيروس.
المخزونات الوطنيَّة من المعدات الطبية موجودة على الورق فحسب، ويتكون جزءٌ كبيرٌ منها من عقود حسب الطلب مع مصنّعين في الصين. وتغاضى المخططون الأوروبيون عن خطر أنَّ الوباء بسبب طبيعته العالمية سيعطل سلاسل التموين تلك.
تحظى أوروبا بتقدير كبير لخبرتها العلمية، ويدرس فيها منذ فترة طويلة الكثير من أفضل طلبة الطب من آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.
وخلال زيارة لكوريا الجنوبية بعد تفشي وباء كورونا فيروس «ميرس» سنة 2015، نالت سالس ديفيز (كبيرة المسؤولين الطبيين في انكلترا آنذاك) درجة خبير. وعند عودتها الى بلادها طمأنت زملاءها أن هذا التفشي لن يحدث في النظام الصحي
العام البريطاني.
لكن لم تتعرض كل الدول الغربية للانهيار، فألمانيا مع مستشارتها التي تلقت تدريباً بالفيزياء وقطاع التكنولوجيا الحيوية المحلي الكبير تعاملت مع الوباء أفضل
من غيرها. 
أما اليونان ذات الموارد الأقل فقد سجلت أقل من 200 حالة وفاة، لكنْ من المتوقع قيام عدة دول بتحقيقات عامة لمعرفة أسباب الإخفاق، وتصارع أوروبا حقيقة أنَّ قارة تعدُّ متقدمة جداً فشلت بهذ الشكل المزري.
أنذر الفشل الأوروبي بالفوضى الحالية في الولايات المتحدة حيث استجاب الرئيس ترامب بادئ الأمر للوباء بإلقاء اللوم على القارة الأوروبية ومنع السفر. أما اليوم فأميركا لديها أعلى عدد حالات عالمياً ومعدل وفيات يرتفع مجدداً، مقترباً من أمم أوروبية أذلها الفيروس.
تمتلك بلجيكا وفق بعض المقاييس أعلى نسبة وفيات عالمياً، أما أغنى منطقة في إيطاليا فتدمرت، والنظام الصحي الفرنسي الناجح تقلص الى حد الاعتماد على المروحيات العسكرية لإنقاذ المرضى من المستشفيات المكتظة. وبريطانيا الفخورة جداً بخبرتها وجاهزيتها جسدت سوء الحسابات الأوروبية، وكان رئيس الوزراء بوريس جونسون واثقاً جداً من قدرة مخططي بلاده على التنبؤ بالوباء بدقة، ما جعله يؤجل إغلاق البلاد لأيام أو أسابيع بعد معظم دول القارة. وانتظر اسبوعين بعد بدء غرف الطوارئ البريطانية بالاستنزاف تحت وطأة زيادة الحالات.
 
الاستفادة من الدرس
يقول بعض الخبراء إنَّ أوروبا تعلمت الدرس الخطأ من انفلونزا الخنازير عام 2009. ويقول البروفيسور البلجيكي ستيفن فان غوخت: «خلق ذلك الوضع نوعاً من الرضا عن النفس، وباء مجددا؟! لدينا نظام صحي جيد ونستطيع التعامل معه».
حولت حكومات بريطانيا وفرنسا وغيرها مخزوناتها الى عقود «عند الطلب» لتقليص النفقات، وافترض مسؤولو الصحة قدرتهم على شراء ما يحتاجون من السوق الدولية حتى بحالة الأزمة، أي من الصين، والتي تصنع أكثر من نصف كمامات العالم.
هبط تجهيز فرنسا من الكمامات عند بداية العام الحالي بأكثر من 90 بالمئة، الى 150 مليون قطعة فقط. ومن جهتها بعثرت بريطانيا ثلاثة أرباع نفقاتها الصحية على حكوماتها المحلية بعد عامين من انفلونزا الخنازير، إذ يصعب تعقبها ويسهل تبديدها. وحذّر 400 خبير صحي برسالة مفتوحة أنَّ اللامركزية «ستعطل وتشظي وتضعف قدرات الصحة العامة للبلاد» وفي السنوات التالية تراجع معدل الإنفاق الصحي للفرد الواحد بثبات. وتقلصت شبكة وطنية كانت مؤلفة من 52 مختبراً الى منشأتين فقط وبعض المراكز المحلية.
اختار مسؤولو الصحة أيضا تقليص مخزونات معدات الحماية للتعامل مع تفشي الانفلونزا، أي بما يكفي للاستخدام خلال عمليات معينة في المستشفيات، ولكن ليس للاستخدام الأكثر عمومية، أو صالات الطوارئ أو مكاتب الأطباء أو دور التمريض.
عرف العلماء أنَّ فيروساً مثل «سارس» أو «ميرس» يتطلب معدات أكثر. وبدت دفاعات أوروبا قوية ظاهرياً، ووفرت مراجعات الاتحاد الأوروبي الرقابة على جاهزية كل دولة لمواجهة الوباء، لكنَّ العملية كانت مضللة.
منعت الحكومات الوطنية «المركز الأوروبي للوقاية من الأمراض ومكافحتها» من تحديد معالم أو تشخيص العيوب. لذلك كانت ملاحظات هذه المؤسسة إيجابيَّة دائماً، ونالت بريطانيا واسبانيا واليونان الثناء على «خبرائها ذوي الدوافع العالية، ومنظماتها العلمية الموثوقة، والثقة بالنظام الصحي».
أدرك مسؤولو الصحة الأوروبيون ضعف المخزونات الوطنيَّة، وقرر الاتحاد الأوروبي رداً على ذلك عام 2016 تلقي عروض لبناء مستودع على مستوى القارة، لكنَّ المبادرة فشلت لأنَّ بريطانيا وفرنسا ودولاً كبرى أخرى اعتقدت أنها مسيطرة على الوضع. ودمرت بلجيكا لاحقاً عشرات ملايين الكمامات منتهية الصلاحية من مخزونها الخاص ولم تستبدلها مطلقاً.
 
الانهيار
أطلق علماء بريطانيون جرس الإنذار يوم 28 كانون الثاني الماضي، وتسبب الوباء بموجة طلب عالمي على معدات الحماية الشخصية وتحديداً أغطية الرأس والوجه التي توفر المعيار الذهبي للسلامة.
من غير الواضح متى بدأت بريطانيا جدياً بمحاولة زيادة امداداتها من معدات الحماية. وقالت وزارة الصحة إنها بدأت بمناقشات وطلبيات غير محددة فقط منذ 27 كانون الثاني. لكنَّ وزير الصحة مات هانكوك اعترف لاحقاً أنَّ بلاده عندما بدأت بالشراء وصل الطلب العالمي للذروة، ما جعل معدات الحماية «ثمينة» والمشتريات تحدياً كبيراً.
ذكر اتحاد الأطباء البريطاني لاحقاً أنه تلقى أكثر من 1300 شكوى من أطباء في أكثر من 260 مستشفى عن معدات حماية غير مناسبة. وتوفي أكثر من 300 موظف صحي بريطاني نتيجة إصابتهم بالوباء.
على المستوى القاري، الحكومات التي قاومت معايير المركز الأوروبي لمكافحة الأمراض تغمره الآن بأسئلة مثل نوعية المعدات الواجب خزنها. ونشرت الوكالة قائمة بما هو ضروري يوم 7 شباط لكنَّ الإمدادات العالمية استنزفت آنذاك.
تفاقم نقص الكمامات في بلجيكا، ما دفع الملك فيليب شخصياً للتوسط بتبرع من شركة التكنولوجيا الصينية علي بابا، وتعرضت الخطط الوبائية البلجيكية لمراجعة شاملة من مؤسسات الصحة الأوروبية والعالمية منذ سنوات، لكنْ عندما تفشى الوباء لم يكلف المسؤولون البلجيكيون أنفسهم بمراجعتها.
أما في فرنسا، فاعترف الرئيس ايمانويل ماكرون ضمنيا بنضوب مخزون الحكومة عند بداية آذار بسبب إعادة الطلب على جميع كمامات البلاد. لكنه بقي مصراً على جاهزية فرنسا، وأعلن الناطق باسمه «لن نوقف عجلة الحياة في فرنسا»، وبعد عشرة أيام على هذا التصريح أمر ماكرون بإعلان حالة الحرب وفرض إغلاق صارم.
سجلت بريطانيا أول حالة وفاة بالفيروس يوم 5 آذار، وتضاعف عدد الإصابات المؤكدة في أوروبا كل ثلاثة أيام وأغلق شمال إيطاليا بالكامل. وعند شهادته أمام البرلمان البريطاني طلب البروفيسور ويتي من النواب وضع ثقتهم بمخططي بلاده، إذ وصفهم بأنهم الأفضل في العالم.
رغم التقارير المنذرة بالخطر من إيطاليا لكنه أشار الى عدم وجود طريقة للتنبؤ بذروة الفيروس، لكنه أكد امتلاك بلاده فترة طويلة قبل بلوغ الوباء تلك المرحلة، وقال إنَّ بناء النماذج سيسمح للحكومة بالانتظار حتى آخر لحظة ممكنة قبل فرض القيود الاجتماعية. وكان جونسون أكثر تفاؤلاً، ودعا الى استمرار الحياة الطبيعيَّة.
 
الحساب
سجلت كل من بريطانيا وفرنسا واسبانيا وبلجيكا وايطاليا أعلى معدلات الوفيات عالمياً، ومات أكثر من 30 ألف شخص في فرنسا، إذ اعترف ماكرون بعدم جاهزية حكومته. وبعد 44 ألف وفاة بسبب كورونا في بريطانيا استمر المسؤولون بالدفاع عن سياستهم، إذ قال مسؤول صحي إنَّ استجابة الحكومة «سمحت لنا بحماية الأشخاص المعرضين للخطر وضمان عدم استنزاف جهاز الصحة الوطني حتى مع ذروة الفيروس».
لكنَّ جونسون اعترف ببطء استجابة حكومته، ما دفع عدة علماء للنأي بأنفسهم عن سياساته. وذكر آخرون أنَّ تقارير العناية المركزة مطلع آذار الماضي كان يجب عدّها سبباً كافياً للإغلاق من دون انتظار مزيدٍ من الفحوصات أو النماذج، والدرس المهم من هذه التجربة كما يقول خبير بلجيكي هو تعلّم التواضع.
صحيفة نيويورك تايمز الأميركيَّة