الأمم المتحدة مهددة بفقدان سبب وجودها

بانوراما 2020/08/23
...

كارولينا لارّيرا
ترجمة: احمد مثنى الموسوي
 
 
 
 
{الشمس حارقة وتحافظ على أن تكون درجة حرارة العاصمة بغداد 50 سيليزية، في ذلك اليوم دخلت الى المطبخ لتحضير كوب من الشوكولاتة الساخنة، لكنَّ خططي باءت بالفشل عندما أدركت أن انقطاع التيار الكهربائي أفسد الحليب, كان علينا أن نستبدله بشراب الاوفالتين (أكياس مسحوق الشعير والحليب الجاهزة) المخفف بالماء. مسك زوجي بعدها يدي قائلا: “لا تهتمي سنغادر قريباً الى ريو دي جانيرو}.
‎بعدها حمل حقيبته، وتوجهنا مستقلين رتلاً من السيارات (لأسباب أمنية)، الى فندق القناة حيث كانت مكاتبنا هناك.
‎في ذلك اليوم قمنا بإلغاء العديد من الاجتماعات المهمة، لكنَّ ذلك لم يمنعنا من الانشغال ببعض المهام الأخرى. فجأة، كل شيء تحول الى العتمة، الغرفة بدت وكأنها قد تشظت من حولي ليغمرها التراب. بعد أن عدت الى وعيي الذي فقدته نتيجة لعصف الانفجار، رأيته عالقاً بحطام البناية المهدمة، حاول أنْ يبقى واعياً، تحدثت إليه، حاولت، دون جدوى، أنْ أخرجه من الحطام الذي أصبح قبره.
لقد عملت لصالح الأمم المتحدة لعقدٍ من الزمن، في ذلك اليوم كنت قد نجوت مما شبه وكأنه الحادي عشر من أيلول، انفجار مكاتب الأمم المتحدة في العراق خلال شهر آب من العام 2003، زوجي الذي فشلت في إنقاذ حياته، كان سيرجيو فييرا ديميلو، البرازيلي ومفوض حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة ومندوبها في العراق.
خلال فترة خدمتي، كنت شاهدة على أفضل أيام أداء المنظمة، عملنا على نيل دولة لاستقلالها الكامل، وإعطاء شعبها الصوت والمستقبل، في دولة تيمور، كذلك شهدت أسوأ أيامها في العراق، وتزامناً مع قرب حلول الذكرى الـ 75 لتأسيس المنظمة الدوليَّة، فإنه يجدر الحديث عن هذه الملفات.
في أعقاب الانفجار وما خلفه من وحدة ووجع شديدين، بات جلياً بالنسبة لي أنَّ أعمالنا في العراق قد ابتعدت عن أهدافها المرجوة، آلاف الأطنان من المواد المتفجرة، التي استخدمها الفاعل، لم تدمر مكاتبنا فقط، بل إنها حطمت وهم منظمة الأمم المتحدة، وإذا ما كانت قادرة على لعب دورٍ سياسي مستقل، حارس يحمي المعايير الدوليَّة لحقوق الإنسان ومفاهيمها.
في سنوات عملي الأولى، قطعت عهداً على نفسي بأنْ نتوصل الى حلولٍ اقتصاديَّة لمعالجة الفقر، لذا فإني قد استبدلت راحة المدن الكبيرة، بالعيش في مناطق الحرب، في البداية كانت تيمور، هناك دعمنا الأرامل اللائي نزحن من مناطق سكناهن نتيجة للنزاع المسلح، قمنا بالمساعدة في إجراء دورتين انتخابيتين، كما أسهمنا في كتابة الدستور الوطني وتأسيس البنك المركزي للبلاد، ساعدنا بإصدار أول جواز سفر للبلاد، ببساطة تمكنا من المساعدة في تأسيس تيمور الشرقية، العضو الـ 191 في الأمم المتحدة، وأول الدول المستقلة في الألفية الجديدة.
في العراق، كذلك خططنا في الأمم المتحدة، خلال شهر تشرين الأول للعام 2003 لعقد مؤتمر تنمية العراق للحصول على الدعم الدولي. أنا وسيرجيو لم نوافق على قرار الحرب على العراق، لكننا عشنا مهمة الأمم المتحدة وشعرنا بالولاء لقيمنا التي سخرنا جهودنا لها، لقد كنا قلقين لما يمكن أنْ يعيشه المدنيون في العراق خلال العمليات العسكريَّة، وبعد توقف هذه العمليات.
العملية الانتحارية قتلت 21 شخصاً من زملائي لحظة وقوعها، سيرجيو، تمكن من النجاة في البداية، لكنَّ وفاته وقعت نتيجة للانتظار لمدة 4 ساعات وهو يعاني الجروح والألم المبرح، وهو ينتظر وصول شخصٍ يتمكن من إنقاذه.
الذي قتل سيرجيو في الحقيقة هو سوء التدبير من قبل إدارة الأمم المتحدة، اتصالات النجدة بمكاتبنا الرئيسة والتي كنت أجريها بهاتف الأقمار الصناعية، كانت تعرقل نتيجة لتعدد المستويات في الهرم الإداري للأمم المتحدة وتشابكها، لتنتهي المكالمة بفقدان الاتصال.
تجهيزات السلامة التي كانت قريبة مني بعد الانفجار لم تتعد كونها بضع ضمادات وحمالة جرحى واحدة، هذه التجهيزات لم تكن كافية لتضميد 200 جريح.
من الواضح، أنَّ العديد من العراقيين عانوا حالات مشابهة نتيجة للعنف في البلاد، لكننا نحن الجهة التي كان على عاتقها مساعدتهم، نحن كذلك وقعنا ضحية لغباء إدارة الرئيس بوش وإهمالها. لكنَّ أميركا لا تتحمل وحدها هذه النتيجة، خلال العامين (2002 – 2003) وما شهدته من نقاش حول ملف العراق، كانت فرنسا تنصب نفسها كالأمير الأخلاقي للعالم، لكنها في الحقيقة كانت لها أولوياتها ومصالحها. كان في منافستها للعرق الانغلو سكسوني (العرق المسيطر في الولايات المتحدة) إسهامٌ في الوصول الى هذه الحالة، كان من مصلحة كليهما أنْ تفشل منظمة الأمم المتحدة في مهمتها، فبالنسبة للولايات المتحدة كان للتأكيد على أنه لا دخل للأمم المتحدة في هذا الموضوع، وبالنسبة لفرنسا، لكي يقولوا للعالم: “هذا ما حذرنا منه”. بوضوح لم تتمكن الأمم المتحدة من العمل في هذه الأجواء، وبموظفين تحت رحمة القوى العالميَّة المتنفذة، الحقيقة كانت أننا بدلاً من لعب دور مستقل وحارس على كرامة المواطنين، والتأمين على احترام التزامات القانون الدولي، وجدنا نفسينا أنا وسيرجيو بيادق بيد الآخرين في بغداد.
الدرس الذي يجب أن نتعلمه من التجربة التي حصلت في بغداد، هو أنه لا يمكنك أنْ تحقق الأمن للبشرية إذا كانت حلولك توفيقيَّة بهذه الصيغة.
ورغم التغاضي عن هذه الأخطاء، وكذلك رغم أني كنت شاهدة على الانفجار وناجية منه، إلا أنَّ تعليقي حول التحادث ورأيي لم يتضمنه التقرير الذي تم إعداده حول الاعتداء، والذي كان عبارة عن 28 صفحة، لم تقم أي محكمة بالتحقيق في ما حدث، في الوقت ذاته كان يبدو أنَّ المنظمة قد غسلت يديها مني. خسرت زوجي، أخلي منزلي في غيابي، تم سحب جواز سفري، فضلاً عن إلغاء تأميني الصحي، أي جريمة قد ارتكبتها ليتم التعامل معي بهذا الأسلوب؟
كنت قد رميت في دوامة من البيروقراطية وتركت وحيدة، حتى أنهم لم يخصصوا مقاعد لي ولوالدي سيرجيو في التأبين الذي أقيم بعد مرور عام.
في الذكرى الـ 75 لتأسيس منظمة الأمم المتحدة، السؤال القائم هو أنه هل ما زالت المنظمة مناسبة للأهداف التي تأسست من أجلها؟ هل تقوم بواجباتها لعالمٍ خالٍ من النزاعات والحروب، وكذلك من استغلال القوى الكبرى؟ أم إنها تعمل لإدامة زخم فعالية هذه القوى والحفاظ على مواقعها، هذه القوى التي تفرض العدالة الدولية بالقدر الذي يتناسب مع مصالحها الخاصة؟
إنَّ الفجوة بين فصاحة البيانات والأفعال الحقيقيَّة صار كبيراً جداً.
بات مألوفا كيف تختار الدول الكبرى ممثلين وقادة أجهزة الأمم المتحدة بما يتناسب ومصالحها، وكيف أنَّ الأمين العام يتغاضى عن تسمية حكومات بعض الدول الكبرى التي اقترفت أعمال عنف ضد الأطفال في بعضٍ من نزاعاتها المسلحة.
هذه الافعال أفقدت الكثير من حضور الأمم المتحدة، وكذلك استجابتها للنزاع طويل الأمد في كلٍ من سوريا واليمن، إضافة الى تعاملها مع جائحة كورونا، بدلاً من ترسيخ تجربة الأمم المتحدة في تيمور الشرقية، إلا أننا بهذا الواقع نكون أقرب الى تجربة المنظمة السيئة في العراق. بعد مضي 75 عاماً، المنظمة باتت تزيف التفاؤل، وهي بحاجة الى إعادة بناء التصور حولها.
صحيح أنه لا يمكن الاستغناء عنها، لكن على المنظمة أنْ تستوعب أخطاءها، كضرورة ملحة لعدم 
تكرارها.