كمامات وقفازات ودموع: إحياء ذكرى عاشوراء في كربلاء

ريبورتاج 2020/08/30
...

  كربلاء: أ ف ب
 
 
بالدموع والأقنعة تجمع الآلاف من المؤمنين في كربلاء بالعراق يوم الأحد الفائت لإحياء ذكرى عاشوراء، في واحد من أكبر التجمعات الدينية في العالم الإسلامي منذ اندلاع جائحة (كوفيد – 19).
وجاء كورونا ليغير عادات لم تمس منذ زمن بعيد، من بينها عاشوراء، وقبلها موسم الحج السنوي إلى مكة، وغيرهما من المناسبات. وحتى الآن، تتردد الدول والمؤسسات الدينية الرسمية في فتح دور العبادة للمراسم الجماعية مثل صلاة الجمعة 
وقداديس الأحد.
مراسم مشتركة
وعادة، يتدفق ملايين المؤمنين من جميع أنحاء العالم إلى الضريح ذي القبة الذهبية الذي يضم جسد الحسين «ع» للصلاة والدعاء والبكاء متراصين جنباً الى جنب.
لكنْ مع ارتفاع أعداد إصابات فيروس كورونا في جميع أنحاء المنطقة، شهدت عاشوراء هذا العام مراسم مشتركة مقارنة بالسنوات الماضية.
وتجمعت مجموعات صغيرة من الزوار في الأفنية الشاسعة خارج موقع الضريح الرئيس، وهم يرتدون الأسود لون الحداد المعتاد والأقنعة الطبية التي فرضت حديثاً على الجميع. وتعمل فرق من موظفي الضريح وسط الحشود على رش رذاذ مطهر من خراطيم طويلة ورفيعة أو يوزعون أقنعة بين الزوار المكشوفي الوجه. وللسماح بدخول الضريح ، يتم قياس درجات حرارة الأشخاص عند البوابات الرمادية باجهزة تشبه اجهزة  الكشف عن المعادن.
 
كربلاء افتراضية
في كربلاء التي شهدت واقعة الطفّ في عام 61 للهجرة (680 م.)، ترتبط حياة الناس بشكل مباشر بمراسم زيارة المقامات والعتبات الحسينية التي تحتضنها.
يخبرنا علي الأشيقر، وهو أحد أبناء المدينة: «شهر محرّم السنة يختلف عن كلّ سنة. لطالما كان أهالي كربلاء ينتظرون هذا اليوم بلهفة، لإحياء مراسم الزيارة والخدمة الحسينية. البعض يلتزم بالتوجيهات الصحية، سواء من ناحية استقبال الزوار أو المواكب الحسينية، أو من ناحية الأكل والشرب المعتاد في المناسبة. في المقابل، يجد الآخرون الالتزام بها أمراً صعباً، لأن مراسم عاشوراء تقليد تربّوا عليه منذ الصغر».
المختلف هذا العام، بحسب الأشيقر، أنّ «أحداث ثورة تشرين كان لها أثر كبير في المراسم. بعض مجالس العزاء ترفع صور شهداء الثورة واغلب كلماتهم تمجيد للثورة». في العراق، كان لتوصيات المرجعيات الدينية دور مهم في إقبال الناس على مشاركة العزاء والشعائر الحسينية عبر مواقع التواصل، كما يخبرنا علي الأشيقر. يقول: «هناك شباب كثر يريدون نقل القضية الحسينية عبر مواقع التواصل الاجتماعي كي تصل لأكبر عدد ممكن من المتابعين. وبالنسبة لكبار السن الذين لا يقدرون على المشاركة بالمجالس، بحكم المرض، أو تجنباً للعدوى، كانت المشاركة الافتراضية أمراً مفيداً، إذ باتوا ينخرطون بمجالس العزاء وهم في المنزل». عند زيارة صفحات العتبات الحسينية في كربلاء على مواقع التواصل، سنجد مشاركة كثيفة لمنشورات إحياء الذكرى، مع صور بجودة عالية، وتسجيلات مصوّرة لندبيات ومواكب لطم. وتماماً كما كانت تكتسي المواكب بالأسود والأحمر والأخضر، باتت الصفحات الرسمية للعتبات مكتسية بالألوان ذاتها، مع نشر صور لرايات حسينية ومصلين. كما تمنح صفحة العتبة الحسينية لزوارها إمكانية زيارة تطبيق للزيارة الافتراضية، والتنقّل في مخيّم المعزين عن بعد.
 
الصلاة وحدها
في الداخل، وضعت إشارات أقدام على أرضية السجادة تحدد مسافة التباعد التي يجب أنْ يلتزم بها المصلون.
وتمنع لفافات ضخمة من النايلون الزوار من تقبيل الجدران كما يفعلون عادة تعبيراً عن حب الإمام عليه السلام.
لكنْ داخل موقع الضريح، يضغط الحجاج بوجوههم المكشوفة على الشبكة المزخرفة التي تفصلهم عن الضريح.
ويبكي العديد من الزوار ويمسحون وجوههم بأيديهم العارية - وهي إحدى الطرق التي ينتشر بها الفيروس.
لكن حضر عدد أقل بشكل ملحوظ من الزوار هذا العام، إذ حثت السلطات في العراق ودول أخرى والأمم المتحدة الناس الى إحياء الذكرى في المنازل.
وعادة ترسل إيران التي باتت أكثر دول الشرق الأوسط تضررا بالوباء وسجلت فيها أكثر من ٢١ الف وفاة، عشرات الآلاف من الحجاج إلى كربلاء.
وقد حظرت طهران مواكب عاشوراء المعتادة وإحياء المناسبة من خلال موكب العزاء واللطم وتقديم الطعام. وبدلاً من ذلك بثت مختلف الطقوس الدينية على التلفزيون الحكومي.
حتى المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي كان يؤدي الصلاة بمفرده، وفقًا لصور نشرها مكتبه وظهر فيها مرتديًا قناعًا في داخل المسجد الفارغ في منزله.
في أفغانستان وباكستان، ما زال الوضع الأمني يشكل مصدر قلق، لكنَّ السلطات الصحية أعلنت عن انخفاض عدد الإصابات الجديدة بفيروس كورونا المستجد. واختار كثيرون إحياء الذكرى في تجمعات عائلية مصغرة، لكن نظمت بعض المواكب شارك فيها آلاف في الأيام الماضية. وقال إسرار حسين شاه وهو من الشيعة المتدينين في العاصمة الباكستانية إسلام أباد: «لا يمكن أنْ يصاب أي شخص بالفيروس». وأضاف «بدلاً من ذلك يأتي الناس للشفاء وحماية أنفسهم، سواء كان ذلك من فيروس أو من مرض».
 
«تهلكة»
في لبنان الذي تتوالى عليه الأزمات وشهد تصاعدًا حادًا هذا الشهر، ألغى حزب الله وحركة أمل مواكب عاشوراء الكبيرة، وطلبا من المؤمنين متابعة الخطب على الإنترنت وعبر القنوات الإعلامية.
وحذرت منظمة الصحة العالمية الأسبوع الماضي من أن عدد الإصابات بـ(كوفيد – 19)  في العراق يرتفع «بمعدل ينذر بالخطر». وقالت إنَّ على العراق الذي يمتلك نظاماً صحياً يواجه صعوبات منذ سنوات وسجلت فيه أكثر من 6200 وفاة، اتخاذ إجراءات لإنهاء تفشي المرض في المجتمع «بأي ثمن».
وأكدت منظمة الصحة العالمية أنه «لا ينبغي أنْ تعقد التجمعات الجماهيريَّة في هذه المرحلة».
وشهدت جميع محافظات العراق ارتفاعا في عدد الإصابات، وسجلت كربلاء عددا قياسيا بلغ 336 إصابة في 21 آب الذي صادف الأول من محرم في التقويم الهجري.
وكانت المحافظة مغلقة أمام غير المقيمين منذ أشهر. لكن قبل يومين من عاشوراء رفعت السلطات القيود للسماح بدخول العراقيين.
ومع ذلك ، اختار البعض إقامة عزاء هادئ في المنزل.
وبين هؤلاء أبو علي الذي يقيم في مدينة الصدر المزدحمة في بغداد. وقال: «أنا وأولادي وأحفادي نذهب إلى كربلاء كل عام لكننا هذا العام كنا خائفين من كورونا».
واضاف أنَّ «الإمام الحسين لا يريدنا أنْ نلقي بأنفسنا الى التهلكة».
الحداد صار رقمياً
في قريته في جنوب لبنان، يفتقد الممثل المسرحي والسينمائي محمد نسر أجواء مجالس العزاء هذا العام. يقول إنّه يواظب على ممارسة شعائر الحداد في بيته، وإنّ الحرمان من الشعائر انعكس سلباً على نفوس بعض أصدقائه.
يقول نسر إنّ الإسلام بالأساس دين جماعة، والجو الجماعي في إحياء مراسم عاشوراء مختلف كلياً عن الإحياء فردياً أو بين أفراد تفصلهم عن بعضهم البعض مسافة كافية لعدم نقل العدوى.
في المآتم والمسيرات الحسينية، يتبادل المصلّون الطاقة والزخم والمواساة. تسري بين الناس موجة من الحزن، ما يعطي ذلك الطقس قيمةً وجدانية، تسمح للمشاركين ببلوغ حالة روحانية عالية.
وإلى جانب كونه وسيلة لإظهار الولاء الديني والحضور السياسي، يعدّ إحياء شهر محرّم نوعاً من تفريغ الحزن على نطاق جماعي. وبالنسبة للشيعة، تعدّ الشعائر العامة أشبه بفرض وجود وإعلان ثورة.
 
«لا نقول للحسين ابتعد»
تقول المختصة بالمسرح والتربية بتول كاج من بيروت: «مهما كانت الظروف قاسية وقاهرة، لا نقدر إلا على إحياء ذكرى الحسين. لقد مرت علينا خلال التاريخ ظروف أقسى من ظروف الوباء، منها مجازر واضطهاد، بالرغم من ذلك بقي إحياء الذكرى قائماً. نحن محبّون، والمحب لا يقول لمن يحبّه ابتعد، أو لن أقدر على لقائك الآن لأنَّ ظرفي لا يسمح. فكيف إن كان من نحبّه هو الحسين؟».
مع التمسك بإحياء الذكرى، كان الالتزام بالشروط الصحيّة متفاوتاً، رغم اجماع المرجعيات على ضرورتها. في بيروت، تلاحظ بتول كاج التزاماً عاماً بمظاهر السواد، وبالطقوس ضمن المقتضيات الصحيّة، مع الاستعاضة عن المسيرات الجماعية بمجالس تعزية أسريَّة وبرفع أصوات العزاء في الشوارع عبر مكبرات الصوت.
تقول إنّ «الالتزام بالإحياء هذا العام يترافق مع تكليفات شرعية للحفاظ على الشروط الصحية من كمامات، وقفازات، ومعقمات، لأن التسبب بنقل العدوى إلى شخص قد ينتهي بوفاته، وذلك أشبه بالقتل».
من جهته، يلفت محمد نسر إلى أنّ مجالس العزاء المنظمة هذا العام، أكثرها مبادرات فردية. بينما اكتفت الجهات الرسمية المعتادة على إحياء الذكرى في لبنان، سواء كانت دينية أم حزبية، ببث مجالس عزاء مركزية ومحاضرات عبر مواقع التواصل ووسائل الاعلام.
هناك مبادرات أخرى، بعضها كشفية، ومنها رادود حسيني يتجوّل في أحياء الضاحية الجنوبية، ويتلو الندبيات من الشارع عبر مكبر الصوت، لكي تتمكن الناس الملتزمة بالحجر الصحي من المشاركة بدون مغادرة منازلها.
 
كلٌّ يعبّر على طريقته
مسرحة التعبير أو «التشابيه» شأن مهمّ جداً في الطقوس العاشورائية، وكان له أثر كبير على أشكال الفنون في الدول ذات التقاليد الشيعية. ففي إيران نمط مسرحي خاص يعرف بـ»مسرح التعزية»، وفي لبنان والعراق تقام سنوياً مسرحيات تسترجع واقعة الطف.
حديثاً، انتقلت هذه المسرحة إلى تطبيقات مثل تيك توك، حيث تنتشر تسجيلات قصيرة لفتيان وفتيات في سنّ المراهقة، يؤدون مقطعاً من بعض اللطميات الشائعة. بعضهم يلتفّ بوشاح أخضر، تعبيراً عن الانتماء الحسيني، 
وبعضهم يرتدي اللون الأسود، لكنه يضفي على تسجيله ما أتيح من مؤثرات وبريق.
يخصص علي الأشيقر حسابه على إنستغرام لنقل الأجواء من كربلاء خلال شهر محرّم، ويحرص على تسجيل المواكب وبثّها عبر خاصية القصص. «لدي متابعون من خارج كربلاء ومن خارج العراق، يحبون رؤية أجواء محرم، ويتفاعلون مع الموضوع بكثافة».