نهى الصراف
أكثر بقليل من مئة عام، تفصلنا جائحة كورونا عن وباء آخر لا يقل شراسة اشترك معه في بعض الملامح وتقاطع معه في أخرى، الوباء الذي حمل اسم الانفلونزا الاسبانية ويبعد عنا هذه المسافة الزمنية الطويلة كان مجرد انفلونزا عادية أصبحت – حينئذ - فيروساً قاتلاً وأحد أكثر الأوبئة فتكا في تاريخ البشرية، بيد أنَّ بؤرة الوباء ذاك كانت معسكرات الجيوش المكتظة في الجبهة الغربية في أوروبا إبان الحرب العالمية الأولى، انتشر المرض كالنار في الهشيم عندما وضعت الحرب أوزارها وعاد الجنود إلى أوطانهم.
لم يكن العلم والطب قد بلغا سن الرشد بعد إبان الحرب العالمية الأولى، وهي المرحلة الدموية الأولى التي حصدت فيها أرواح بشر شاركوا فيها كأطراف متحاربة في معركة كونية سحقت الأخضر واليابس من مدنيين وعسكريين أبرياء، توزعوا بغير تساوٍ على معسكري المتحاربين على مدى أعوام أربعة حتى أواخر العام 1918.
في أعقاب هذه الحرب التي راح ضحيتها الملايين تضعهم التقديرات بين (15 - 22) مليون قتيل، واصلت يد المنية حصد مزيد من ملايين الأرواح الأخرى على مدى عامين متواصلين من عمر وباء الإنفلونزا، حتى سقط عددٌ كبيرٌ من الضحايا ما بين 40 إلى 50 مليون إنسان بين عامي 1918 و1920، حسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، حيث تسببت الانفلونزا الاسبانية بخسائر بشرية تجاوزت خسائر الحرب العالمية الأولى التي كانت على وشك الانتهاء عند بدء انتشارها.
اليوم، يحاول أهل العلم التعكز على معطيات تاريخية للتعامل مع مفاجآت (كوفيد – 19) وهم لا يترددون في العودة الزمنية مسافة مئة عام للبحث والتقصي عن سلوك فيروسات مشابهة؛ فقبل أيام خرج علينا رئيس منظمة الصحة العالمية باستنتاج غريب معرباً فيه عن أمله بانقضاء جائحة فيروس كورونا في أقل من عامين، في إشارة إلى أنَّ التغلب على الإنفلونزا الإسبانية،
استغرق في الماضي عامين لا أكثر!
مع ذلك، لم يغفل رئيس المنظمة التي تعدُّ حائط الصد الأول في مواجهة كورونا، التقدم التقني والعلمي الذي حققته البشرية خلال العقود العشرة الماضية وهو يبدو واثقاً تماماً من أنَّ المدة قد تكون أقصر من ذلك قائلاً: “لكننا في الوقت نفسه لدينا أيضاً التقنية (اللازمة) لإيقافه، والمعرفة (اللازمة) لإيقافه”!
فمن سنصدق يا ترى، التاريخ المخيف أم الحاضر المرتبك؟ مخاوفنا أم قلق المتخصصين؟
زمن طويل جداً، مئة عام من الخوف والمحاولات والفشل والآمال المكسورة والأبحاث والتجارب، تخطتها البشرية حتى وصلت إلى العصر الحديث بكل ما فيه من تطور علمي وتقدم تقني هائل، لكنها لما تزل تراوح في مكانها المعتاد؛ الخوف من المجهول، المرض والموت، الفشل في مواجهة مخلوقات غامضة لم تكن تمتطي ظهر مركبة فضائية كما كان متوقعاً، بل انها أصغر من أنْ ترصدها العين المجردة، كائنات مجهرية فرّت من مختبرات الأبحاث أو من بقايا حيوانات صدئة لتعيث في الأرض فساداً، شاركتنا الهواء الذي نتنفسه والسطوح التي نلمسها، أسرّة المستشفيات والمقابر، ثم دخلت عنوة إلى الممر الصغير الذي يفصلنا عن المستقبل، هذا الممر الذي بدأ يضيق على أحلامنا شيئاً فشيئاً.
ماذا ينقصنا بعد الآن؟
أعادنا الهجوم الفيروسي إلى نقطة البداية ولم يستطع العلم أن يقاوم مدّ المجهول، هكذا اتجه الناس للخرافات والأكاذيب ليروضوا مخاوفهم، بعضهم وجد فيها هدوءاً وسكينة مؤقتة وبعضهم ما زال يقاتل شكوكه، بينما تتجه عيون الجميع إلى أصحاب الشأن لسحب الإجابات وفك الطلاسم، لكن النصائح الوحيدة التي حصلنا عليها جاءت على شكل توجيهات ساذجة مثل الامتناع عن المصافحة وملازمة المنازل وارتداء الأقنعة، تماماً كما جاء في السيناريو ذاته قبل 100 عام.
لكن الإجابة الوحيدة المتاحة في هذه الفوضى تبدو في العودة إلى الماضي، فالتاريخ اليوم يعيد نفسه بأسوأ أشكاله، أما صور ضحايا الأوبئة القديمة التي فتكت بالبشر في الماضي البعيد التي كنا نطالعها بخوف وأسف، فصرنا نشاهدها يومياً في الشارع والمستشفى وربما سنشاهدها في المرآة، من
يدري؟