الهندسة الحزبية بين النظام الثنائي وخيارات الحزب الثالث
قضايا عربية ودولية
2020/09/09
+A
-A
جواد علي كسار
منذ نحو مئتي عام والنظام الحزبي الثنائي هو المهيمن على الحياة السياسية الأميركية، ولكن يمكن أن ننتزع من أحشاء هذه البداهة حقائق مهمّة ترتبط بأميركا، لاسيّما في مواسم الانتخابات. على سبيل المثال قد يظن البعض عدم وجود أحزاب في الولايات المتحدة غير الحزبين الجمهوري والديموقراطي؛ هذان الحزبان اللذان تبادلا موقع الرئاسة منذ عام 1932م، بواقع ثمانية رؤساء من الحزب الجمهوري وسبعة من الحزب الديموقراطي، والمنافسة على أشدّها الآن بين الحزبين، لتعيين هوية الرئيس القادم.
الحزب الثالث
لكن الحقيقة هي على غير هذا الإيحاء، فهناك عشرات الأحزاب التي تندرج في ما يُطلق عليه بخيار الحزب الثالث أو الأحزاب الصغيرة، يصل تعدادها إلى (218) حزباً سياسياً، ويكفي أن نعرف في قياس حضورها، أن بطاقة الاقتراع في انتخابات الرئاسة عامي 2000م و2004م، أظهرت أسماء مرشحين لاثني عشر حزباً، عدا مرشحي الحزبين الجمهوري والديموقراطي.
على سبيل المثال نسمع الرئيس الحالي دونالد ترامب، كثيراً ما يهاجم قوى اليسار السياسي، وهو بالتأكيد لا يعني باليسار منافسيه في الحزب الديموقراطي وحده، بل يمتدّ هجومه ليشمل أنصار الأحزاب الصغيرة، أو أحزاب الخيار الثالث، هذه الأحزاب التي تنشط في مواسم الانتخابات، وتضاعف جهودها في النقد وصياغة الأفكار الجديدة، ودفعها إلى حيّز التداول، كما هو شأن حزب «أميركا أولاً» الذي اتّهم ترامب بسرقة أفكاره، بل وشعاره المحوري ووظّفه في حملته الرئاسية عام 2016م.
إذا كانت الخريطة الحزبية بهذه المنزلة من التعدّدية والتنوّع، فلماذا تغيب أحزاب الخيار الثالث، ولا نعرف تأثيراً في الرئاسات الأميركية إلا للحزبين الجمهوري والديموقراطي؟ الحقيقة أن أسباب هذا الانحسار، تعود إلى الهندسة الحزبية في الحياة السياسية الأميركية، وآليات الانتخاب المزدوج للرئيس من خلال نظامي الاقتراع الشعبي المباشر من جهة، وأصوات المجمع الانتخابي من جهة أخرى؛ إذ همّشت تلك الهندسة وهذه الآلية، أي محاولة لكسر نظام الثنائية الحزبية، وحصنتها حتى الآن من اختراق الحزب الثالث.
حزب الجمهوريين الديموقراطيين
لم يكن لأغلب الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة موقف إيجابي من وجود الأحزاب السياسية، بل يؤثر عن الرئيس الأول جورج واشنطن (في المنصب: 1789 - 1797م) أنه يكره الأحزاب السياسية، لأنها تؤدّي إلى دمار الأمة بحسب رأيه، كما ارتبطت حياة الرئيس الثالث للولايات المتحدة توماس جيفرسون (في المنصب: 1801 - 1809م) بمقولة تكشف عن كراهية شديدة للأحزاب، بلغت حدّ المقت، حين ذكر أنه لو كان دخوله الجنّة مرتبطاً بانتمائه لحزب سياسي، لفضّل عدم دخول الجنة!.
بيدّ أن المفارقة هي ارتباط تأسيس الحزبية الأميركية بتوماس جيفرسون نفسه؛ فعلى إثر الانقسام الذي نشأ بين الناس في الولايات الثلاث عشرة التي كوّنت الدولة، توزّعت الولاءات آيديولوجياً بين فريقين؛ الفريق الاتحادي الذي يؤمن بالحكومة المركزية، والفريق المعادي الذي يؤمن بمركزية حكم الولايات، مع إطار مركزي شكلي. الغريب في الأمر أن أعداء الاتحاد أسسوا حزب الجمهوريين الديموقراطيين، الذي تحوّل في ما بعد إلى حاضنة للحزبين الرئيسين، بعد انشقاقه إلى ديموقراطيين وجمهوريين.
على عهد الرئيس السابع آندرو جاكسون (1829 - 1837م) انشقّ حزب الجمهوريين الديموقراطيين، إلى حزبين، هما الحزب الديموقراطي، والحزب اليميني «الويغ» أو «الويج» وهو الحزب الذي تدهورت شعبيته واختفى عن الساحة، ليترك مكانه إلى الحزب الجمهوري الذي برز عام 1854م، واستطاع بعد ستّ سنوات فقط أن يدفع بمرشحه إبراهيم لينكولن (1809 - 1865م) إلى الرئاسة في انتخابات 1860م.
من خلال هذا المخاض الذي يؤرّخ لبعض وقائعه الباحث الفرنسي المعروف موريس دوفرجيه (1917 - 2014م) صاحب الكتاب المشهور «الأحزاب السياسية»، يكون الحزب الديموقراطي الحالي الذي يمثله بايدن في الانتخابات المقبلة، قد تأسّس كحزب مستقل عام 1840م، في حين أن الحزب الجمهوري الذي يمثله ترامب في انتخابات نهاية العام، قد تبلورت بذوره كانشقاق عن الحزب الجمهوري الديموقراطي عام 1850م، وأعلن وجوده كحزب عام على المستوى القومي، عام 1856م.
رؤساء الحزبين
من أبرز رؤساء الحزب الديموقراطي في القرن العشرين وودرو ويلسون (1913 - 1921م) إبّان الحرب العالمية الأولى، والرئيس الثاني والثلاثون فرانكلين روزفلت (1932 - 1945م) إبّان الحرب العالمية الثانية، وهاري ترومان (1945 - 1953م) الذي اقترن اسمه بضرب اليابان نووياً، وجون كيندي (1961 - 1963م) الذي ارتبط اسمه بأزمة صواريخ كوبا، وجيمي كارتر (1977 - 1981م) الذي ارتبط اسمه باتفاقية كامب ديفيد وانتصار الثورة الإسلامية في إيران وأزمة الرهائن، ثمّ الرئيس بيل كلينتون (1993 - 2001م)، وأخيراً الرئيس باراك حسين أوباما الذي شغل المنصب بين 2009 و2017م.
من الرؤساء الجمهوريين خلال المدّة نفسها الرئيس الحادي والثلاثون هربرت هوفر (1929 - 1933م) الذي ارتبط عهده بالأزمة التي عصفت بالاقتصاد الأميركي، والرئيس دويت ايزنهاور (1953 - 1961م) الذي وهب حزبه حماسة وشعبية من خلال اعتداله، والرئيس ريتشارد نيكسون (1969 - 1974م) الذي أُجبر على الاستقالة بعد أن اقترن اسمه بفضيحة ووترغيت، ثمّ الرئيس دونالد ريغان (1981 - 1989م) الذي لمع اسمه من خلال انتهاء الحرب الباردة، بانهيار الاتحاد السوفياتي، وأخيراً الرئيس جورج بوش الابن (2001 - 2009م) الذي تقارن عهده مع ضربات العمق الأميركي بتأريخ 11 أيلول 2001م، وإسقاطه لنظامي طالبان وصدام حسين.
الفوارق بين الحزبين
لا تتسم الأحزاب الأميركية وعلى رأسها الحزبان الديموقراطي والجمهوري، بالمركزية الشديدة، والعضوية بالمعنى التنظيمي، وهي اليوم وعلى رغم وجود بعض الفروقات في خيارات إدارة الدولة والقاعدة الاجتماعية، أقرب ما تكون إلى الاتجاهات السياسية، منها إلى الأحزاب الآيديولوجية.
الحزبان الجمهوري والديموقراطي هما الآن وسيلة في حسم الخيار الرئاسي، أكثر مما هما مشاريع تفصيلية في السياسة والثقافة والاقتصاد، لاسيّما بعد أن تآكلت قاعدتهما الآيديولوجية التأريخية بحسم الملفات الكبرى، بدءاً من المركزية واللامركزية، وتحرير العبيد، وصدور لائحة الحقوق المدنية، وتصويت الكونغرس عام 1964م بإلغاء التمييز والفصل العنصري، بحيث لم تعد هناك فوارق كبيرة بين الحزبين، إلا ما يرتبط بالإنفاق العام وتشريع الضوابط في ما يرتبط بسلوك الأفراد والجماعات.
الغالب على سياسات الجمهوريين، التقليل من حجم الضرائب التي تُنفق على مشاريع الخدمة العامة ودعم الفقراء والعمال والأجانب والمهاجرين، بعكس الديموقراطيين الذين يبدون ميلاً لزيادة الإنفاق العام على هذه المرافق، ما يعطينا مائزاً بين الاثنين يتصل بدور الحكومة أو الإدارة العامة في المجتمع.
هذا الفراغ الفكري للحزبين فتح المجال واسعاً، أمام خيارات الحزب الثالث؛ هذه الأحزاب التي اندفعت لتمثّل دور التيار الإبداعي في الحياة السياسية الأميركية، بحيث صارت تشكو على الدوام، سرقة الحزبين الكبيرين الجمهوري والديموقراطي، لأفكارها وما تطرحه من مشاريع.
أجل، هناك تنوّع داخل الحزبين الديموقراطي والجمهوري، ينشأ بحسب المحللين من الطابع المحلي والسياسة الخاصة لكل حزب داخل الولاية، هذا التنوّع في الدور والوظيفة الذي تنهض به كوادر الحزب في كلّ ولاية من الولايات الخمسين، دفع موريس دوفرجيه، في كتابه المعروف: «المؤسّسات السياسية والقانون الدستوري: الأنظمة السياسية الكبرى»، الى أن يتحدّث عن (50) حزبا ديموقراطيا و(50) حزبا جمهوريا، كناية عن استقلال الحزبين في كلّ ولاية من الولايات الأميركية الخمسين، وأن هذه الكيانات الحزبية المحلية لا تتوحد على النطاق القومي، في ظلّ اللجنة الوطنية التي تمثل القيادة العليا للحزب، إلا مرّة واحدة كلّ أربع سنوات، تحديداً في الانتخابات الرئاسية.
الأحزاب الصغيرة
يتوزّع الخريطة الحزبية في الولايات المتحدة اليوم أكثر من مئتي حزب صغير، تمتدّ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، يحمل بعضها أسماء غريبة ودعاوى أغرب، كما هو الحال مثلاً بحزب «السلام عن طريق الجنس» الذي يرفع شعار تحقيق السلام ومعالجة القضايا السياسية والاجتماعية من خلال الجنس وعبر المزيد من الإباحية الجنسية، أو حزب «الماريجوانا الأميركي» الذي أُنشئ عام 2002م، وهو يرى أن الحقوق المدنية للأميركيين قد تعرّضت للخطر من خلال حرب أميركا ضدّ المخدرات، ومن ثمّ فهو يدعو على تقنين زراعة الماريجوانا وتعاطيها، كسبيل لغلق السجون. وكذلك حزب «التعدّدية الرأسمالية» الذي يعارض الحركات الرأسمالية والاشتراكية على حد سواء، ويتّهمها بالتسلق على ظهور الفقراء بتمكين الأغنياء، ويدعو الحكومة الأميركية إلى تبنّي آيديولوجية اقتصادية، يتحوّل فيها كلّ مواطن إلى رأسمالي ناجح ومالك للأرض.
وفرة الأفكار والمشاريع الإبداعية والحيوية النقدية، هي ميزات تتفوّق بها الأحزاب الصغيرة، على الحزبين الكبيرين الجمهوري والديموقراطي، اللذين دخلا عالم الرتابة والتكرار منذ زمن بعيد. تأكدت لي هذه الملاحظة وبانت بشكل كبير عندما راجعتُ بيانات وأفكار وبرامج (55) حزباً من هذه الأحزاب (يُنظر: أمة قلقة، ص 365 - 441).
يمكن رمي الأحزاب الصغيرة بكلّ المساوئ والتهم، لكن ذلك لا يسلبها الخصوبة الفكرية والإلهام النظري. لهذا السبب تحديداً تحوّلت إلى مرجعية للأفكار ومصدر للإبداع، ما دفع بالحزبين الكبيرين الديموقراطي والجمهوري، الى السطو عليها ونسبة ما يسرقانه إلى نفسيهما. يقول د. عبد الفتاح ياغي: «أما الأحزاب الصغيرة، فدورها يكاد ينحصر في تطوير أفكار إبداعية جديدة». ثمّ يقوم الحزبان الكبيران بـ«سرقة هذه الأفكار منها، والاستفادة من أفكار الأحزاب الصغيرة، التي عادة ما تكون أفكاراً متميّزة. وقد يتمادى الحزبان الديموقراطي والجمهوري، فيقومان بالادّعاء أن أعضاء في حزبيهما هم من طوّر تلك الأفكار المسروقة» (الحكومة والإدارة العامة في الولايات المتحدة الأميركية، ص 333).
تطول قائمة هذه الأحزاب كما ذكرنا، ولكن كأمثلة سريعة لعدد منها، نشير إلى الحزب الشيوعي الأميركي (تأسّس: 1919م)، والحزب الدستوري (تأسّس: 1992م)، وحزب الخضر (تأسّس: 1996م)، وحزب أميركا أولاً (تأسس: 2002م)، والحزب الأميركي المستقل (تأسس: 2008م)، والحزب الأميركي المحافظ (تأسس: 2008م)، والحزب الاشتراكي المسيحي الأميركي الذي أعلن إنشاؤه عام 2006م.
المنجز السياسي
عدا المنجز الفكري الإبداعي، فإن لأحزاب الخيار الثالث مشاركة في الحياة السياسية؛ محدودة على المستوى القومي في مجال انتخابات الرئاسة والكونغرس والشيوخ، وأكثر فاعلية في الولايات، ولاسيّما في انتخابات مجالس الولايات وحكوماتها، إذ استطاع بعض هذه الأحزاب أن يسجّل حضوراً جزئياً.
برغم هذا التوصيف الذي يُظهر عجز هذه الأحزاب على المستوى القومي، فقد استطاعت تسجيل اختراق مشهود في بعض مواسم الانتخابات الرئاسية. ففي انتخابات عام 1948م استطاع مرشح حزب حقوق الولايات ستروم ثرموند أن يحصد 22 ٪ من الأصوات الشعبية لولايات الجنوب، وفي انتخابات عام 1968م رشح جورج ولاس عن الحزب المستقل الأميركي، وقد حصل على 13,8 ٪ من الأصوات الشعبية، وقد تكرّر الأمر نفسه في انتخابات عام 1980م عندما شارك جون أندرسون في المعركة مرشحاً عن حركة الوحدة الوطنية، وحصل على 7 ٪ من الأصوات، لتعود الكرّة مجدّداً في انتخابات عام 1992م عندما انتزع مرشح حزب الإصلاح روس بيرو 19 ٪ من الأصوات الشعبية.
الهندسة الحزبية
بصراحة، لماذا لم تنجح هذه الأحزاب؟ باختصار شديد، استطاعت الأحزاب الصغيرة أو أحزاب الخيار الثالث، أن تحقق نجاحات محدودة على مستوى المناصب داخل الولايات، كما كان لها دورها في هز خريطة الثنائية الحزبية، لكن من دون أن تهددها، وتمسّ تصميمها الهندسي الراسخ.
يعزو المحللون عجز هذه الأحزاب إلى ضعف التمويل، وقلة الكوادر، وانخفاض الدعم الإعلامي، وهشاشة القاعدة الشعبية، وهذه عوامل وجيهة، لكن السبب الأهمّ برأيي يعود إلى الهندسة الخاصة التي تقوم عليها الحياة الحزبية، ولا أقصد بذلك ارتكاز الحياة الحزبية في أميركا على حزبين كبيرين، يتداولان السلطة، فهذا ما يمكن أن نجد له مثيلا في الكثير من الديموقراطيات الغربية.
أقصد بالهندسة الحزبية، الضمانة التي يقدّمها التكييف القانوني للانتخابات الرئاسية، من خلال تصميم النظام الانتخابي على قاعدة وإن بدت مزدوجة بين التصويت الشعبي، والتصويت بالنقاط من خلال المجمع الانتخابي، إلا أن الأساس في وصول المرشح إلى الرئاسة، هو النقاط التي يحصدها عبر المجمع الانتخابي المؤلف من (538) نقطة.
النقطة الأساسية هنا أن المجمع يُهيمن عليه الحزبان الجمهوري والديموقراطي في الولايات كافة، ومن ثمّ فإن طريق أحزاب الخيار الثالث، يمرّ باختراق المجمع من خلال الولايات، ومن هنا يذهب الدارسون إلى أن هذه الأحزاب لو استطاعت السيطرة على الأصوات ولو في ولاية واحدة، فستكون تلك بداية الطريق لإنهاء هيمنة الحزبين.
ما يخشاه كثيرون أن الترامبية بمزاج رئيسها ترامب، قد تسمح بهذا التخلخل في الهندسة الحزبية، ولو بعد ترامب نفسه!.