تسييس الشعر

ثقافة 2020/09/09
...

 مالك مسلماوي
 
موضوع السياسة ليس جديدا على الشعر العربي، بل هو موجود منذ القدم بشكل ما الى جانب الاغراض الاساسية المعروفة، فكل قبيلة لها شعراء يذودون عنها، وما دام هناك مجتمع توجهه او تديره سلطة ويخضع لنظام معين، فلا بد من وجود رأي مؤيد او معارض او وجهة نظر في ما تفعله السلطة.
نشط الموضوع السياسي في الشعر ابان صدر الاسلام للتصدي الى اعداء الدين الجديد و تسويق الفكر الاسلامي، وكان من الصحابة شعراء مقربون منهم حسان بن ثابت و عبد الله بن رواحة.. و بعد أن آلت السلطة للأمويين اضحى الشعر السياسي لونا فاشيا الى جانب الالوان الشعرية التقليدية تبعا للصراعات على السلطة ووجود احزاب و تيارات متدافعة كالشيعة و الامويين والخوارج والزبيريين.. وقد كان لكل حزب شعراؤه.. وممن ذاع صيتهم جرير والفرزدق و الاخطل والطرماح وقيس الرقيات وقطري بن الفجاءة وغيرهم، كل يعلي شأن حزبه على باقي الأحزاب.. وقيل ان الشعر في عصر بني امية يُعدّ عودة للعصبية القبلية قبل الاسلام، واعتقد ان (النقائض) بين جرير والفرزدق والأخطل تتعدى المنافسة الشعرية الى كونها تمثيلا للخلاف السياسي بين الأمويين و خصومهم..  وجاء العصر العباسي وقد شهد نزوعا نحو التجديد المنسجم مع تطور الحياة على الصعد كافة وانعكس ذلك على خصائص الشعر، لكن الصراع السياسي لم ينته، فشعراء بني العباس انبروا في مقارعة اعدائهم الأمويين ومن شايعهم.
 
أدب الرفض
 من المظاهر الثقافية الجديدة في العصر العباسي الثاني ظهور ما يسمى ب (أدب الرفض) وهو الأدب الذي يقف ضد السلطة القائمة لتدني جوانب الحياة وشيوع الفساد لدى الحكام.. وبعد عصر الانحطاط ودخول ما سمي بعصر النهضة وصولا الى القرن العشرين شاع الشعر السياسي تبعا لحركات التحرر من الاستعمار ومناصرة القضايا الوطنية والقومية، فكان الرجحان للغرض السياسي كجزء من المهمة الاجتماعية التي تصدى لها الشعر، كما لدى كثير من الشعراء ومنهم: صفي الدين الحلي والحبوبي والكاظمي والبصير والشبيبي .. ثم الرصافي والزهاوي والجواهري وغيرهم.. و مثلما كان للاستعمار (فضل) على الشعوب بتحريضها وايقاظها من رقدتها، انعكس ذلك على الشعر فأصبحت السياسة الغرض الاول فعبروا عن وعي و تطلعات الشعب الى الحرية و الاستقلال و مكافحة الظلم بجميع اشكاله.. بل اصبحت القصيدة السياسية جامعة لكل الاغراض التقليدية، فكانت غرض الاغراض، ففيها الحب و الوصف والفخر والحماسة والسخرية والشكوى وما الى ذلك.. لكن الأهم هو ان القصيدة السياسية منذ النصف الثاني من القرن العشرين اعطت مفهوما جديدا جمع بين أمرين مختلفين متباعدين هما: الحب والسياسة، فظهرت القصيدة الوطنية التي عبرت عن حب الشاعر لوطنه والتضحية في سبيله، لكن هذا الحب انبنى على موقف محدد وايديولوجيا معينة لكثير من الشعراء في افتراقهم بين (اليمين واليسار)، هذا الانقسام كان له مبرراته المرحلية واختلاف وجهات النظر في صورة المستقبل.. وهو اختلاف طبيعي وفّر مناخات جديدة للحركة الشعرية في العصر الحديث.. إن تسييس الشعر اخذ مناحي شتى الا انها – وان كانت منسجمة مع روح العصر وحرّكت المياه الراكدة في الخطاب الثقافي- عملت على جعل الكثير من الشعر صدى مرتدا عن الخطاب السياسي، ذلك ما اعادنا في بعض الاحوال الى (ظاهرة التكسب) القديمة ومنافقة السلطة التي املتها الظروف (الاجتماسياسية) آنذاك.
شعر المقاومة
الظاهرة الاكثر جرأة و اقرب الى النقاء العاطفي و التمثيل الموضوعي البعيد عن التصنع والابتذال هو في شعر المقاومة الفلسطينية، محمود درويش ورفاقه الذين عاشوا تجربة الحب الجديد، الذي كان قطباه الارض والحبيبة او هو قطب واحد ينصهر فيه حب الارض وحب الحبية، فكان الشاعر الفلسطيني لا يفصل بينهما.. هي تجربة شعرية حياتية نهضت من الغربة والمعاناة والأمل في استرداد الارض المغتصبة.. لذا كانت التجارب المعاصرة التي لم تخذل الشعر لصالح الغاية الضيقة كثيرة، تلك التي عبرت عن الحقيقة الشعرية بأصدق صورها في اقترابها او تماسها مع الحقيقة الحياتية او النظرة الفلسفية بعيدة المدى و لتعطي التصور الشامل للأوضاع الانسانية عبر المنظور الخاص من اي اتجاه كان. يمين/ يسار. شرق/ غرب.. 
إن تحرر القصيدة من ارثها الشكلي وغرضيتها التقليدية جعلها ارفع من ان تعبر عن غايات ضيقة وخطابات فئوية برجماتية، وباتت تلتقي في اهداف مشتركة في خدمة الانسان و قضاياه المصيرية وفي مفهوم الحرية والوطنية و الحياة العصرية.. وبهذا لم يعد الشعر وسيلة مناسبة لتطلعات الاحزاب والتكتلات فلجأت الى اسلحة اخرى، الى العسكرة والمنابر الاعلامية والمال، بينما اصبحت للشعر غايات جمالية وانسانية عابرة للعقائد والأيديولوجيا الضيقة والنظر الى الواقع من منظور الوعي الانساني في الانحياز الى الحقيقة لا غيرها.. القصيدة الحداثية تأنف من المديح والفخر ونفخ الذات وليّ الحقائق والدجل الشعري من اجل ترميم الذات المنكسرة او ارضاء للولاة والسلاطين ومن سار على نهجهم من الحكام المستبدين، و خوضها في الموضوعة السياسية بصفتها قصيدة معارضة في وصفها العام.. فهي تعمل على كشف الواقع ونقضه و هي ليست قصيدة هجاء على اية حال أو انه هجاء آخر لا يعتمد على التسقيط والازاحة، انما كشف مواطن القبح و الزيف الاجتماعي، وهذا ما نجده -على سبيل المثال لا الحصر- لدى شعراء كثر كسامي مهدي و سعدي يوسف وكاظم الحجاج وموفق محمد و جواد الحطاب.