الأطفال في سجن النقال

ريبورتاج 2020/09/13
...

  ذوالفقار يوسف
 
عم الهدوء، واحتجزت تلك الدمية في علبتها طوال اليوم، بينما اشتاقت تلك الكرة للركلات منذ أن فارقت الشباك، وهجرت الكتب، ونسيت قصص ما قبل النوم، وانتهى زمن صنع الطائرات الورقية، وقد حلت محلها آلة خبيثة، أجهزت بكل ما لديها لتسيطر على عقول أطفالنا، وتحرمهم بذلك من لذة الطفولة التي عرفنها نحن من قبل، انها زنزانة التكنولوجيا التي حبس فيها مستقبل اولادنا بلا رادع ولا توجيه.
غزت اجهزة النقال الأسر كما يغزو الجراد الحقول، اذ إن من المحال أن تجد احد المنازل يخلو من هذه الآفة التي تهتك بعقول الكبار قبل الصغار، ولأنها متعددة الاستعمالات، صارت من اولويات الاجهزة التي يجب ان تكون من مقتنيات كل فرد، فوفق احصائيات قام بها مركز الاعلام الرقمي DMC بأن عدد مستخدمي الهواتف الذكية بلغ 40.89 مليون شخص اي بنسبة 103 % من عدد السكان الكلي في العراق، وهذا الرقم ليس مغلوطاً، اذ ان هناك العديد من الاشخاص ممن يقتنون اكثر من جهاز ذكي واحد.
 
ذو العقل الاسفنجي
وعلى الرغم من هذا الرقم الهائل من مستخدمي الاجهزة الذكية في البلد، الا أننا لسنا بصدد الحديث عن مستخدميه من الكبار، فالوعي والمسؤوليات والاعمال وغيرها قد تكون حاجزاً بين الاستخدام المفرط لهذه الآلة، الا أننا نختص بهذه السطور بذلك الكائن ذي العقل الاسفنجي، الذي يختزل كل مايراه ويتعلمه بسرعة هائلة تحضيراً لمستقبله، ذلك الطفل الذي قد أمسك بأداة قد تحطم مستقبله ما إن يُدمن عليها، فالبرغم من الفوائد الكثيرة لهذه الاجهزة، إلا أنها كارثة كبيرة إن ساء استخدامها، وقد تمحو بذلك جيلا كاملا، وتخلق اخر مليئا بالعُقد والمشكلات التي سيصعب إصلاحها في المستقبل.
لم يكن تحديد عُمر من يستطيع اقتناء هذا النقال وارداً في العراق، اذ اصبح الطفل منذ سن الرابعة وهو يمسك احدث انواع الاجهزة الذكية ويتصفح بها بسهولة، وكل ذلك بلا رقيب ولا حسيب، ولا توجيه يحدد له الوقت الطبيعي للاستخدام، محمد مؤيد (30 عاماً) احد المتضررين جراء محبته لطفلته ميار التي تبلغ 4 أعوام، ومع عدم امتلاكها لجهاز ذكي الا ان والدها لم يتوان عن اعطائها الهاتف كلما ارادت ذلك، يقول محمد : "لا يفارق الهاتف يد ابنتي، منذ عودتي من العمل، الى ان تغلق عينيها للنوم، فهي تتصفح بالبرامج المخصصة لعرض مقاطع الفيديو، وهذا ما جعل صحتها تتدهور بسبب تعلقها بهذه الالة، مما جعلني استخدم هاتفي عند الحاجة ومن ثم أخفيه عند وجودها  بقربي".
 
الأم مدرسة 
أصبح هذا الجهاز يخلق هاجسا مقلقاً لأغلب الآباء والامهات، فبعضهم صار يروي ما يقاسيه مع وجوده بحزن ويأس، هذا ما رأيناه عندما تحدثنا مع مديرة احدى المدارس هناء كاظم صالح لتقول: "نحن نرى اولادنا وقد انغمسوا في عالم هذا الجهاز الذكي الى أبعد الحدود، وابتعدوا عن عالمنا، حتى انه اصبح المتعة الكبيرة لهم، فصار الطفل لا يتمتع بلعبة ولا بقطعة حلوى، ولا بلحظات حنان من والديه بقدر ما يتمتع بمسكه لجهاز النقال، حتى أنه أصبح يشعر بالأمان معه كأنه مع أبويه أو ربما اكثر، وخير دليل على ذلك، بقاؤه وحده ساعات طويلة في الليل من دون الخوف وهو مندمج مع هذه الالة، في حين كان في السابق لا يستطيع أن يبقى لحظات وحده في مكان 
ما دوننا".
 
"ببجي"
من منا لم يسمع بهذا الاسم، وكيف لا وقد كانت وما زالت هذه اللعبة أحد مخاوف الأسر في جميع انحاء العالم، وقد تصدرت في اعلى قوائم الالعاب، التي يهوى لعبها الكبار والصغار، وبالرغم من التحذيرات منها لكونها لعبة حربية قتالية، احد شروط الفوز بها هي قتل الخصم، الا أن اطفالنا صاروا من محترفي هذه اللعبة، ولا يوجد ما يشغلهم اكثر من الحديث عن انجازاتهم فيها، ومراتبهم التي تتطور في كل مرحلة يتخطونها، صادق الحميداوي (35 عاماً) يقص لنا معاناته من هذه اللعبة ويقول: "لم أكن في بداية الامر مهتماً بمعرفة الالعاب التي يمارسها الاطفال في هذه الاجهزة، الا ان ولدي ذا السبعة اعوام، انقلبت حياته وحياتنا رأساً على عقب عند ما قام بتحميل هذه اللعبة على جهاز النقال، اذ انه نسي معنى النوم، فضلا عن وجود خاصية لهذه اللعبة تتيح التواصل مع لاعبين في اللعبة نفسها، واستماعهم لكل من يتحدث في المنزل، حتى اخر موقف جعلني امنعه من استخدام الهاتف، وهو الحديث مع اشخاص يتجاوز عمرهم الثلاثين عاماً، ليعرف ان التطور التكنولوجي له فوائده، وهذه اللعبة حتماً ليست 
منها".
 
منع تام
لكل قاعدة شواذ، وعلى الرغم من ان كلمة شاذ بعيدة كل البعد عما تتعامل به رفيف هاشم (33 عاما) مع اطفالها بالنسبة للاجهزة الذكية وبالتحديد الهاتف النقال، إذ تؤكد لنا أن "أطفالي لا يستخدمون الهاتف مطلقاً، فقد علمتهم على عيش حياتهم وطفولتهم كما كنا نعيش حين كنا صغارا، فتراهم يركبون العجلات الهوائية في الصباح، ويمارسون هواية الرسم والتصميم وغيرها، وبالرغم من اهتمام اصدقائهم بالاجهزة وادمانهم عليها جعلهم يبتعدون عن مشاركتهم في الالعاب، الا اننا استطعنا من خلال هذا الاسلوب كسب لغة الحوار معهم، اذ نترك انا ووالدهم اجهزة النقال الخاصة بنا في المنزل عند خروجنا للتنزه معهم، وذلك يسهل عملية المشاركة الاسرية التي تنعدم هذه الايام مابين الاسر".
 
قيود ولكن
انتشر قبل ايام مقطع مصور لأبوين يشكوان من موقف قد واجههم اثناء مراقبتهم لطفلتهم وهي تستخدم الـ (ايباد)، وهو جهاز ذكي لوحي، اذ قالوا بأنهم قد رأوا إعلانا غير اخلاقي يظهر في شاشة الجهاز اثناء لعب طفلتهم، حاولوا الدخول مجددا ليتأكدوا من الامر، ولم يظهر الاعلان مجدداً على الرغم من ان نوع اللعبة صالحة لعمر طفلتهم، بعدها قام الاب بإعطاء الجهاز لطفلته والابتعاد عنها عدة مسافات، فقد كانت شكوكه بأن المستخدم مراقب عن طريق كاميرا الهاتف، ليظهر بعد ذلك لها الاعلان اللا أخلاقي نفسه عند دخولها للعبة، لهذا تيقن الأبوان بأن المقصود بهذا الاعلان هو إفساد الاطفال عن طريق الالعاب الالكترونية، وهذا ما يؤكده حيدر عبد حلول، إذ يقول: "رغم تقييد برنامج "اليوتيوب" الذي يعد منصة لنشر المقاطع والفيديوهات، الا ان هناك الاعلانات المصاحبة لكل مقطع مرئي، فتجد الاغاني التي ملئت بالعري، واخرى قد تخللت بها الشتائم بطريقة غير مهذبة ليتعلمها الاطفال، حتى الافلام التعليمية الخاصة بالكبار، وهذا ما يجعل التقييد غير مكتمل، لهذا لا بد من اضافة بعض الميزات في هذه البرامج للحد من ظهور اشياء قد تفسد عقول الاطفال".
 
تقليد
الأطفال هم ببغاوات ليس إلا ولكن بشكل مؤقت، هم المقلدون المحترفون لكل شيء يرونه ويسمعونه، وهذا اساس التعلم، فقد ترى طفلك يمسك بإحدى مكائن الحلاقة ليقلدك، واخرى تقلد والدتها في ارتداء الملابس، الا ان يصل الامر الى تقليد ما يشاهدونه في جهاز النقال، هو امر في غاية الخطورة، اذ نراقب الاطفال وهم يتحدثون بمفردات لم نسمعها من قبل، تسمع احدهم وهو يقول (بوشنكي) واخر يتحدث بمفردات انكليزية وهو لم يدخل المدرسة الابتدائية بعد، وثالث وهو يصرخ لقد فسد محصولي، ويقصد بذلك ان محصوله في احدى الالعاب التي تتيح لك استصلاح الاراضي، ومن هذا الادمان ودمجه مع الواقع تعرف بأن الخلاص صعب، من هذا الجانب توضح لنا الناشطة بحقوق الطفل سدى الخفاجي وتقول: "ان تأثير الهواتف النقالة على الاطفال لايؤثر فقط في سلوكهم، بل في صحتهم ايضاً، خصوصاً بعد ظهور الهواتف المتطورة جداً، والتي أغنت الكثيرين عن اجهزة التلفاز والكومبيوترات، ومع امتلاك جميع افراد الاسرة لهذه الاجهزة ما جعلها متاحة امام الاطفال في هذه الاسر، فاغلب الامهات يشغلن أطفالهن من خلال إشغالهم بهذه الاجهزة، ليتخلصن من جزء من واجباتهن المنزلية، وهذا خطأ كبير لكونه يجعله بديلاً عن تربيتهن لهم، ومما يزيد تأثر سلوكهم وخلاياهم العصبية في الدماغ لكونها خلايا غير مكتملة بعد، مما يسبب اضطرابات في النوم، والحالات النفسية كالتوحد، اذ تتأثر بسبب الشحنات التي تبثها هذه الآلات، وتكون سببا رئيسا بعزلة الطفل واعتماده على 
الهاتف".
 
نقيضان
وكما على الآباء دور في مراقبة ابنائهم، فهناك الاجداد في مراقبة سلوك وتربية أحفادهم، وخصوصاً هؤلاء الذين قد جعلهم التقاعد من وظائفهم دائمي الجلوس في المنزل، يوجوهن احفادهم بما يستطيعون، السيد صالح حسن يحدثنا وله أمنيات بأن يرى أيام طفولته بأحفاده ويقول: "الموبايل هو مفتاح لكل الابواب خيرها وشرها، كما جميع الاشياء في الوجود، يحمل النقيضين، او كما يقال سلاح ذو حدين، هو احياناً طريق للمعرفة، واخرى اكتشاف المجهول، وتوسيع المدارك والعقول، او الانجراف للشر، خصوصا تلك المواقع التي ينجذب إليها الطفل بلا وعي وتأخذه بعيداً بغرابتها، فأطفالنا هم الذين اصبحوا من يتحكمون بأوقاتنا لا نحن، اذ لا وقت معيناً للنوم او للعب، وكل الاوقات لديهم مفتوحة ومباحة، وبهذا قد حرموا مما عشناه في طفولتنا، حرموا من "الدعابل والچعاب وطمت اخريزه والتوكي والختيلان" اضافة لما نمارسه من ألعاب 
رياضية، كالسباحة وكرة القدم في الأزقة والطرقات والساحات 
العامة".