جزر أوغاساوارا.. بوتقة الأعراق والثقافات واللغات

بانوراما 2020/09/20
...

سيمون دينير
ترجمة: ليندا أدور
 
 
 
تستغرق الرحلة البطيئة بالقارب للوصول الى جزيرة “تشي تشي جيما”، أكبر جزر أوغاساوارا على المحيط الهادئ، 24 ساعة تقريبا، وتبعد نحو 600 ميلا جنوب العاصمة اليابانية طوكيو، حيث تعيش بقايا ثقافة فريدة من نوعها تنحدر من مستوطنين أميركان وأوروبيين وبولينيزيين، سعوا للحصول على حياة جديدة منذ أكثر من 200 سنة مضت. في شوارع تشي تشي جيما الهادئة، يسير اليابانيون بملامح وجوه أجنبية، وأسماء مثل: “سافوري” و”واشنطن” و”غونزاليز”، لا يزال البعض منهم 
يتكلم لهجة الجزيرة المختفية، وهي مزيج من اليابانية والانكليزية، وبضع كلمات من الهاوائية.
ضربت الجزيرة رياح الاستعمار والقومية والحرب، لكنها نجت منها لتصبح بوتقة تنصهر فيها الأعراق والثقفات واللغات، وإرثا يحمل إصداء إضافية في عالم يواجه اليوم الحسابات على أساس الهوية والعرق.
فبالنسبة لليابان، يمنح هذا التنوع المجتمعي الفريد تعريفا مختلفا لمعنى أن تكون يابانيا، كما تمثل رؤية غير عادية، وملهمة في الوقت، ليابان متعدد الأعراق، حيث تواجه البلاد الحاجة لجلب المزيد من الأجانب لرفد قوتها العاملة ومجتمعها الهرم. 
 
غير مأهولة
يقول روكي سافوري (60 عاما)، من الجيل الخامس لسكان الجزيرة ويدير متجرا فيها: “نحن جزيرة صغيرة، لكن تأريخها طويل، ويجب علينا الحفاظ عليه”. في حزيران من العام 1830، أقدم 23 رجلا وإمرأة على القيام برحلة محفوفة بالمخاطر على متن مركب شراعي بريطاني، يدعى واشنطن، لمسافة 3300 ميلا، من هونولولو، ليستقر بهم الأمر في أرخبيل منعزل، كان يعرف لدى الغرب باسم جزر بونين، وهو الترجمة المشتقة للمفردة اليابانية التي تعني “غير 
مأهولة”. أغرت الأراضي الخصبة والشواطئ المغطاة بالسلاحف المستوطنين، ففكروا بإنشاء مركز إمداد لسفن صيد الحيتان الغربية لما بات يعرف الآن بأرخبيل أوغاساوارا. واليوم، يشكل أحفادهم نحو مئتين من سكان تشي تشي جيما البالغ عددهم 2000 شخص، بينما ينتشر الآخرون ما بين جزر غوام وهاواي والبر الرئيس للولايات المتحدة الأميركية.
رسم البحارة اليابانيون خرائط الجزر البركانية لأول مرة، وليس من قبل عشيرة ساموراي أوغاساوارا الاسطورية، التي تسمى اليوم باسمها، وفي العام 1827، إدعى، فريدريك بيتشي؛ أحد ضباط البحرية البريطانية، ملكيته للجزر بعد تثبيته للوحة نحاسية على شجرة بذلك. كان البريطانيون قادة أولى المجاميع المستوطنة، لكن الشخص الذي برز كقائد لهم كان أميركيا ويدعى ناثانيل سافوري، يعمل صائد حيتان من ولاية ماساتشوستس، والذي لا يزال اسمه يتردد صداه عبر الأجيال وإرثه يُحتفل به. في العام 1853، رحب سافوري بقائد البحرية الأميركي ماثيو سي بيري، وهو في طريقه لفتح اليابان على العالم الخارجي، وكان على ثقة تامة بأن الجزر تمثل محطة رابطة بين اليابان والولايات المتحدة، لدرجة أنه اشترى قطعة أرض مميزة من سيفوري مقابل 50 دولارا فقط.
 
{أوباي كي}
لكن اهتمام الغرب بالجزر أثار انتباه اليابان كذلك التي سارعت لإرسال مستوطنيها في العام 1862، تبعته بأخرى سنة 1875، لتضمها الى أراضيها بحلول العام التالي. وبذلك، أُرغم المستوطنون الأصليون على أن يصبحوا مواطنين يابانيين متجنسين، وما زالوا حتى اليوم، يشار لهم باللغة اليابانية بعبارة “أوباي كي”؛ أي الغربيين. عاش المستوطنون اليابانيون والغربيون والبولينيزيون بسلام معا، وصل الى حد التزاوج في ما بينهم، حتى نشوب الحرب العالمية الثانية. وأصبحت جزيرة آيوو جيما، واحدة من سلسلة جزر أوغاساوارا، من ضمن المناطق المتنازع عليها في حرب المحيط الهادئ، وتعرضت تش تشي جيما المحصنة لقصف شديد، وتم إجلاء سكانها الى البر الرئيس. انتهى الأمر بأحفاد المستوطنين الغربيين الى العمل في مصانع الذخيرة قرب طوكيو، لكنهم، بملامحهم الغربية، عانوا من التمييز وسوء المعاملة وحتى العنف اثناء الحرب.
وبالعودة الى تشي تشي جيما، كان مصير الطيار الأميركي الذي تسقط طائرته أسوأ بكثير، اذ تعرض ثمانية منهم للضرب والتعذيب والإعدام، بينما تعرض خمسة آخرون الى التقطيع، بأمر من ضابط ياباني، وفقا لسجلات محاكمات جرائم الحرب التابعة للبحرية الأميركية، حتى أن جورج بوش (الأب) نفسه، نجا من هذا المصير، بشق الأنفس، عندما كان في العشرين من عمره، حيث أسقطت طائرته أثناء غارة على الجزيرة، خلال أيلول 1944، ولقي زميلاه مصرعهما، ليتم انقاذه من قبل غواصة أميركية، بينما كانت زوارق الدوريات اليابانية تطارد طوافة هروب. وإحياء لتلك الحادثة، زار بوش الجزيرة سنة 2002 تكريما لذكرى الحادثة. 
 
جيل البحرية
بعد استسلام اليابان سنة 1945، وضعت جزر أوغاساوارا تحت سيطرة البحرية الأميركية، التي كانت تتطلع لوجود قاعدة دائمة لها عند هذا الموقع الستراتيجي المهم خلال الحرب الباردة المتصاعدة، سمح بعدها البنتاغون بعودة 129 شخصا من أحفاد “الغربيين” الى الجزر، لكنه حرم ذوي الأصول اليابانية من حق العودة.
وكمثال على الإنقسام المتزايد، أقدم ثلاثة من سكان الجزيرة الغربيين على الشهادة ضمن محاكمات جرائم الحرب ضد ضباط يابانيين، حتى أن الكثير منهم طالب ببقاء الأميركيين. 
في نهاية المطاف، أذعنت الولايات المتحدة لمطالب اليابان المتكررة لإعادة الجزر الى سيطرتها، وحدث ذلك بالفعل عندما أزيل العلم الأميركي، واستبدل بالياباني في حزيران 1968، ليصبح التعليم في مدارس الجزيرة بين ليلة وضحاها باللغة اليابانية بالكامل بدلا من الانكليزية. 
بالنسبة لسكان الجزر، شهدت الهوية واللغة تحولا من جيل الى آخر، لذلك كانت الأمور مريحة أكثر بالنسبة للأجيال الأكبر والأصغر سنا، بينما يفضل “جيل البحرية”، وهو ما كان يطلق على سكان الجزر من الغربيين الذين نشؤوا في تلك الفترة، اللغة 
الأنكليزية.
يقول ديفيد تشابمان، من جامعة كوينزلاند باستراليا الذي كتب عن تاريخ الجزيرة: “هل أنت ياباني أم أميركي؟” هو السؤال الأعم لدى زوار الجزيرة الفضوليين، لتأتي الإجابة بلغات مختلفة، اعتمادا على من يجيب ومن 
يسأل”.
يقول جون واشنطن (71 عاما)، الذي ولد بعد الحرب مباشرة ودرس باللغة الأنكليزية وهو يرفع العلم الأميركي فوق دار الضيافة الذي يملكه في تشي تشي جيما، بأنه مواطن أميركي: “لكن في أعماق قلبي، لا أزال اعتبر نفسي من سكان جزر 
بونين”.
أما ناسا سيفوري (32 عاما) الذي نشأ في الجزر وأكمل دراسة الثانوية والجامعة في طوكيو” فيعلق: “مع كل مرة أحاول فيها استئجار منزل، أطالب بإبراز جواز سفري، وأن أشرح سبب امتلاكي اسما أميركيا مختلفا، فأقول لهم إنني ياباني وأعيش هنا منذ 20 عاما، لكنهم يعاملونني كأني لست من 
اليابان”.
 
عن صحيفة الواشنطن بوست الأميركية