أميركا تنسحب.. وشرق أوسط جديد يتشكل

بانوراما 2020/09/27
...

  ديفد إغناشيوس 
  ترجمة: انيس الصفار 
كانت الغاية المقصودة من المشهد الذي رأيناه هذا الأسبوع، مشهد القادة الاسرائيليين والبحرينيين والاماراتيين وهم مجتمعون في البيت الابيض، هي ايصال رسالة طمأنة مفادها بأن الولايات المتحدة لا تزال قوة لها وزنها في صنع السلام والاستقرار في الشرق الأوسط. بيد أن تلك الصورة المتفائلة كانت خادعة لسوء الحظ.
الولايات المتحدة تسير على أرض قلقة في هذه المنطقة الهائجة، فهي لا تحتفظ الآن إلا ببقايا من قواتها العسكرية في سوريا والعراق وأفغانستان للسيطرة على نشاط الإرهابيين، بيد أنَّ التواجد الأميركي مستمر بالانحسار والتدني. مستقبل الشرق الأوسط معلقٌ الآن بين تراجع سطوة الولايات المتحدة والديناميكيات الداخلية الجديدة، موجبها وسالبها، التي تتحرك لملء الفراغ.
لقد اقترب الرئيس ترامب من نهاية دورته الرئاسية من دون أنْ يحققَ الهدف الموعود بسحب الجنود الأميركيين بشكل كامل من المشاركة في "حروب لا نهاية لها"، ولكنه ليس بعيداً جداً عنه، فحين يحل موعد الانتخابات سوف يكون لدى الولايات المتحدة 4500 جندي في افغانستان وما يقارب 3000 جندي في العراق وأقل من 1000 جندي في سوريا. ربما كان ترامب يتمنى لو أنَّ باستطاعته جعل هذه الأرقام صفراً، ولكنه إذا ما أنهى التواجد الأميركي بالمرة فسوف يجعل هذه الأوضاع السيئة أشد سوءاً.
لوحة الأهداف بين الفائزين والخاسرين في الشرق الأوسط الجديد تنبئنا بحقيقة الصورة. فاسرائيل قد تكون المستفيد الأكبر لأنها وسعت انطلاقها متحررة من عزلتها السابقة بتوقيعها اتفاقيتي التطبيع في الاسبوع الماضي. الاماراتيون ايضاً من بين الفائزين الكبار لأنهم تحركوا صوب رؤيتهم لمنطقة أشبه بأوروبا مفتوحة الحدود أمام التجارة والاستثمار.
أجمل أحد المسؤولين الاماراتيين منطقهم البراغماتي على النحو التالي: "ما نحاول أنْ نقوله هو كفانا ثرثرة في الايديولوجيا، نحن بحاجة للتركيز على المستقبل.. على العلم والتكنولوجيا.. على أنْ نصبح شركاءً تجاريين للجميع".
تركيا هي الفائز الثالث، فهي المستفيد المفاجئ من انحسار سطوة الولايات المتحدة وهذا المستفيد يمكن أنْ يكون خطيراً. يعد بعض القادة العرب تركيا اليوم خطراً يهدد استقرار المنطقة أشد من خطر إيران، فالاتراك والقوات الموالية لهم يحرزون النجاحات المتتالية، في سوريا وليبيا والعراق. الزعماء العرب الذين كانوا يتشكون من النفوذ الإيراني في المنطقة يولولون اليوم من النفوذ التركي في حلب والموصل وطرابلس والدوحة ومقاديشو.
لقد لاحظ البيت الابيض بلا شك أنَّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان كان من بين أعلى الأصوات التي انتقدت "اتفاق ابراهام". كان ترامب أول من مكن اردوغان وقوى ساعده، بيد أنَّ هذه العلاقة قد تكون انتهت، والسبب لا يقتصر على احتمال خروج ترامب خاسراً في تشرين الثاني المقبل بل يبدو أنَّ ترامب ووزير خارجيته "مايك بومبيو" يزدادان سخطاً بسبب اندفاعة اردوغان الهوجاء لفرض الهيمنة على المنطقة وتودداته لروسيا.
أكبر الخاسرين في الشرق الأوسط الجديد هي السعودية التي يمثل انحدارها الوجه المقابل لصعود القوة التركي. فالمملكة اليوم أدنى نفوذاً في المنطقة من أي وقت على مدى جيلٍ كاملٍ مضى. يحظى السعوديون بمكانة مقربة لدى واشنطن تحت سلطة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ولكنهم منوا ايضاً بانتكاسات في اليمن ولبنان وسوريا وباكستان ودول أخرى كان لمزيج أموالهم وآيديولوجيتهم فيها أشد الأثر.
مناطق الحروب في المنطقة لا تزال هشة قلقة فهي عالقة في لعبة جرّ الحبل بين رغبة ترامب في سحب القوات وتصميم البنتاغون على إبقائها الى أنْ تصبح الأوضاع أكثر استقراراً.
أما في افغانستان فقد يكون السيئون هم الرابحون، لأنَّ طالبان المنتشية بسكرة النصر، كما يعبر أحد المسؤولين، لم يفوا بوعدهم بخفض مستوى العنف وإخماد نشاطات القاعدة حتى وهم يبدؤون مفاوضات السلام مع حكومة كابول. لقد تعهد ترامب بسحب جنوده جميعاً بحلول شهر أيار إذا ما سمحت الظروف، ولكنَّ القادة الأميركيين يتشككون في أنْ يمضي هذا الاختبار بنجاح.
في العراق ربما يكون ترامب قد أصاب بعض النجاح، إذ يثبت رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بأنه أحد أفضل القادة العراقيين الذين تولوا السلطة في العراق منذ الغزو الأميركي في 2003، ولكنْ عليه بلا شك أنْ يتعامل بحذرٍ مع مسألة إبقاء 3000 جندي أميركي لتدريب الجيش العراقي الذي يبدو قوياً بما يكفي لقهر "داعش" او أي تحدٍ آخر.
في سوريا يتواصل الكابوس، إذ فقدت الولايات المتحدة معظم وسائل ضغطها بسبب لهفة ترامب لدعوة اردوغان الى غزو شمال البلد. تسيطر تركيا الآن على مساحات كبيرة من سوريا، وحكومة بشار الأسد تعاني بشكلٍ متزايد من الفساد والتخبط، والحلفاء الروس ليست لديهم الموارد الكافية ولا الصبر لإزالة كل هذه الفوضى.
كان الطرف الغائب عن واشنطن هذا الأسبوع هم الفلسطينيون، الخاسرون المزمنون في لعبة الشرق الأوسط. ورقة رهانهم الوحيدة المتبقية قد تكون شدة عنادهم ورفضهم قبول خطة ترامب للسلام التي تعني المصادقة على هزيمتهم. القضية الفلسطينية، شأنها شأن "الحروب الأخرى التي لا نهاية لها" في المنطقة، سوف تبقى همّاً يلاحق الفائز في انتخابات تشرين الثاني الرئاسيَّة.