فيفيان يي
ترجمة: ليندا أدور
أسند صاحب مطعم الفلافل ظهره الى الوراء متكئاً، وبدأ بإحصاء مفاتيح وأسرار المطبخ اللبناني الرئيسة التي ساعدت في منحه تلك الهالة، أولها هي بذور السمسم التي تدخل في صناعة صلصة الطحينة المدخنة التي توضع على الفلافل والسمك المقلي، والتي تستورد من السودان، وثانياً كانت حبوب الفول المدمس، طبق الإفطار الكلاسيكي والتي تستورد من بريطانيا واستراليا، وأخيراً وليس آخراً، حبوب الحمص التي تستخدم لعمل الحمص بطحينة، وكانت تستورد من المكسيك، لكون حبوب الحمص اللبناني صغيرة جداً ومشوهة ولا تصلح سوى علف للحيوانات.
يقول جاد آندريه لطفي، الذي يساعد في إدارة مطعم فلافل “أبو آندريه”، الرخيص والبسيط، الذي تملكه الاسرة، “لقد فسدنا، نستورد كل شيء يمكن أن يخطر ببالك ومن كل أنحاء العالم”. استمر هذا الحال لسنوات، حتى انهار اقتصاد البلد، قبل أن يأتي تفشي جائحة “كورونا”على ما تبقى منه، وجاء بعدها تفجير مرفأ بيروت، أوائل آب الماضي، ليدمر المنازل والأعمال في عموم أنحاء بيروت، ناهيك عن الدمار الذي لحق بالمرفأ الذي تصل عبره معظم واردات لبنان، ليبدأ بعدها البلد، الذي اشتهر بتقديم أشهى أصناف الأطعمة للعالم العربي، يعاني الجوع، ووجدت طبقته الوسطى التي اعتادت قضاء إجازتها في أوروبا، والخروج لتناول السوشي، رفوف المتاجر قد خوت من بضاعتها.
الحمص صار رفاهية
لذلك، كانت دعوة السياسيين المفاجئة للبنانيين، في وقت سابق من هذا العام، بأن يزرعوا ما يأكلون، وهي الدعوة التي أطلق عليها اسم “الجهاد الزراعي”. ومع استمرار العلاجات، بدت “حدائق النصر” بديلا ضعيفا للإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي يطالب بها اللبنانيون والمقرضون الدوليون على حد سواء، بغية ايقاف انهيار البلاد، لكنه بدل قاتم.
منوهاً بأن سعر الكيلوغرام الواحد من الحمص المكسيكي قد تضاعف ثلاث مرات، يقول لطفي: “حتى صنع الحمص بطحينة في المنزل، بات رفاهية الآن”، بعد أن فقدت الليرة اللبنانية 80 بالمئة من قيمتها منذ خريف العام الماضي، ما أدى الى زيادة أسعار المواد الغذائية وإرغام الكثير من الاسر على قبول المساعدات الغذائية إثر ازدياد أعداد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خطر الفقر الى أكثر من نصف السكان، وقد فاقم التفجير من احتمالية تفشي الجوع بعد تسببه بنزوح نحو 300 ألف شخص من منازلهم وتجريد أعداد غير معروفة منهم من مدخولاتهم، تاركاً الكثير من السكان معتمدين على الوجبات المتبَرع بها.
حتى قبل دعوة السياسيين لهم لزراعة طعامهم، كان عدد كبير من اللبنانيين قد بدؤوا ذلك بالفعل، فبحلول أواخر العام الماضي، بدأت لين حبيقة، (42 عاما) بحراثة وتهيئة أرض تملكها اسرتها كانت مهملة، في القرية، حيث نشأت وسط جبال تقع شمالي شرق بيروت.
شبكة أمان
مقترضة المال من صديق، بدأت حبيقة بزراعة الطماطم والفاصولياء والخيار والكوسة والفراولة والباذنجان والخضراوات والأعشاب بما يكفي لسد حاجة الاسرة في الشتاء وما بعده، كما بدأت بصناعة جبن الماعز الطازج للحصول على دخل إضافي. تقول حبيقة وهي تتأمل المنظر من حديقتها حيث تصطف اشجار الزيتون والتين والتوت والجوز منحدرة الى واد أخضر: “ذلك يشعرني بأني في نعمة كبيرة، فأنا أزرع ما آكل، لا بأس، فلن أجوع”. رغم أن والدها كان يمتلك أسطولا للحافلات المدرسية، إلا أنه استمر بتربية الدجاج وزراعة حديقة المنزل الخلفية، وهي صغيرة، فقد نشأت لين وأبناء جيلها، وهم يحلمون بحياة هانئة في المدينة، تخرجت من جامعة مرموقة، كان دخلها وزوجها، يكفي لإرسال ابنهما الى مدرسة خاصة، لكن بعد تدهور اقتصاد البلاد تراجع دخلها كطاهية خاصة وكذلك عمل زوجها بمجال استيراد السيارات المستعملة من أوروبا وإعادة بيعها الى الشرق الأوسط بسبب الجائحة، ما اضطرهم لنقل ابنهم الى مدرسة مجانية، ثم قامت ببيع مجوهراتها لتوفير ثمن الطعام.
غدت الحديقة في قرية “بسكنتا”، شبكة أمان لاسرتها، بعد ان كان والدها وعمها على وشك بيع الأرض التي تملكها الأسرة لأجيال، لكن عندما منعت المصارف أصحاب الحسابات من سحب أكثر من بضع مئات من الدولارات اسبوعيا، الأمر الذي جعل أي صك مصرفي لا قيمة له ويشبهونه “بمناديل التواليت”، قالت حبيقة لعمها: “هل تخسر الأرض مقابل “ورق التواليت”، ام نحتفظ بها لنأكل منها لشهور”، مضيفة: “انت لا تجني المال منها، لكنك تدخره، وبدلا من ذهابك الى السوق، ستأكل زرعا طازجا”. تحول ابن عمها، منصور أبو شاكر (34 عاما)، الذي كان يعمل مدرب تزلج، ومدير مصنع ومشغل مولدات، التي يعتمد عليها الكثير من اللبنانيين لسد نقص الطاقة الكهربائية، الى زراعة أرض بور أخرى تعود للأسرة، لزراعة الخضار وتربية الدجاج والأغنام في حظيرة خلفية بعد أن خسر وظائفه
الثلاث.
زراعة الشرفة
يقول أبو شاكر، الذي يعيش في قرية عجلتون: “فجأة، لم يبق شيء لي، واصبحت بلا عمل، لم أفكر يوما بأني قد أتعرض لمثل هذا، لكن هذا هو العمل الوحيد الذي يمكن أن أعتاش منه في المستقبل”. غير إن مقاطع اليوتيوب المصورة التعليمية لم تكن كافية لتهيئة أبي شاكر لمواجهة تقلبات تربية الحيوانات، عندما مات خمسة أغنام، بخسارة تقدر بـ 500 دولار لكل
منها.
مشكلة أخرى كانت في مواجهة أبي شاكر وحبيقة وهي الحصول على امدادات المياه الحكومية، ما اضطرهما لشراء خزان مياه خاص.
أما ارتفاع الأسعار، والانقطاع المتكرر للكهرباء، وتقلب سعر صرف الدولار، كل ذلك كان يمكن التغلب عليه، حتى وقع التفجير، وفي حالة يأس، فكرت حبيقة بمغادرة البلاد، فتقول: “كنت أعتقد أني قصة نجاح، لكن هذا يكفي، هذه ليست بحياة، اننا نحاول النجاة بأنفسنا، من دون أن نعيش، ولا أرى أي مستقبل لولدي هنا بعد الآن”.
لكن بعودتهم الى الأرض، يغير أبو شاكر وحبيقة وجهة اللبنانيين التي استمرت لعقود بترك الزراعة والاتجاه نحو العمل المصرفي والسياحة والخدمات.
لعقود من الزمن، كانت البلاد تستورد 80 بالمئة من غذائها، رغم إن لبنان يزرع الكثير من الفواكه والخضراوات، إلا انه يفتقر الى الأرض والتكنولوجيا لإنتاج ما يكفي من القمح وغيره من المحاصيل الأساسية للمستهلك المحلي. “لن نحقق اكتفاء ذاتيا أبدا في ما ننتج، لكن تحت ظل العولمة، بدأنا التحول نحو مكونات وعناصر غذائية أخرى”، بحسب مابيل شديد؛ خبيرة الزراعة المستدامة، التي تختتم حديثها بالقول: “حان الوقت لنعيد النظر بنظامنا الغذائي التقليدي، ونرى قيمته”.
لكن علينا أن نتذكر.. لا أحد يمكنه إطعام اسرته من شرفة منزله!!.
* صحيفة نيويورك تايمز الأميركية