بين الماضي والحاضر..«الهاون» يطرق ناقوس الذكريات

ثقافة شعبية 2020/09/30
...

بغداد: غيداء البياتي 
حكايات كثيرة عاشتها ام بثينة 71 عاما مع اهلها وجيرانها واصحابها في منطقة الشيخ عمر وواكبت كل تفاصيل واحداث ذلك الحي الشعبي، ولما لا وهي حينها كانت ابنة صاحب أكبرمحل عطاريات في المنطقة. وبينما ترتب ام بثينة " شيلتها " تلتقط انفاسها وتتحدث عن اجمل لحظات ايامها، مستذكرة ماضيا جميلا مع والدها في دكانه الممتلئ بانواع العطاريات والحبوب العشبية، ذلك بعد ان سألتها عن المطحنة اليدوية القديمة والتي تسمى "الهاون" فتقول:
" على الرغم من التطور الهائل في اجهزة طحن الحبوب والمواد الغذائية الصلبة، الا اني ما زلت استخدم ذلك المهراس الذهبي اللون "الهاون" في طحن الحبوب خاصة الهيل والقرنفل وجوزة البوة وحبوب السعد التي تستخدم لتلطيف رائحة الفم قديما، وما زال صوت دقاته يرن في أرجاء رأسي ويعيد بذاكرتي الى اجمل سني حياتي مع اهلي واصحابي وجيراني وزبائن دكان والدي، 
بطلباتهم لدمج الهيل المطحون مع الشاي، وطحن القرنفل مع مجموعة بهارات البرياني وغيرها، فكنت امسك بمقبض "الهاون " واجهز الطلبات للزبائن، وكنت اتحايل بصوت تلك المطحنة النحاسية فأرفع صوتها بالدق بقوة تارة واخفضها تارة اخرى لاسمع حكاوي ابناء ونساء المارة وهم يتحاورون بمواضيع متنوعة مع بعضهم او يوجهون حديثهم لوالدي وهم ينتظرون 
طلبهم". 
في احدى زوايا منزلها الحديث والكبير احتفظت الهام العاني او حجية الهام كما تحب مناداتها بهاون نحاسي ورثته عن والدتها وهي تؤكد انها تستخدمه في طحن الحبوب وصناعة حلوى "المدكوكة " على ما تقول 
وتضيف:" في كل مرة افرح او احزن امسك بمقبض "الهاون" واطرق به حتى لو لم اكن ارغب بطحن نوع معين من الحبوب، فبمجرد سماع رنين تلك المهرسة النحاسية استذكر تأريخا عميقا وقديما لجدتي ووالدتي، وكيف كانت الحياة جميلة والناس تعيشها بالفطرة، وكيف كنا نسعى للعمل الجماعي والتعاون 
في ما بيننا، فبذلك "الهاون" نصنع "المدگوگة" التي تتكون من التمر والسمسم والراشي، فكنت انظف حبات التمر من نواته بعد ان اضع كمية كبيرة منه في قطعة قماش وادعكه لازيل عنه الاتربة واعده للطحن في "الهاون"".
وتشير مبتسمة الى شقيقتها الكبرى انعام حيث كانت هي الاخرى تتعاون بجمع حبات التمر في وعاء تلك المطحنة الذهبية، لتتم طحنها بمقبضة "الهاون" من قبل والدتهما ليهرس جيدا، وتسترسل بحديثها عن الجارة ام سعاد التي كانت تعينهم بتكوير التمر المطحون ووضعة بصينية الراشي والسمسم لتتم صناعة اطيب حلوى". 
جلست امام الخالة ام مقداد وانا اترنم موسيقى "الهاون" النحاسي الذي ما يزال يستخدم حتى الان من قبل جميع افراد اسرتها.
وبينما اخذت ام مقداد تخفت بصوت الطرق على "الهاون" لتحدثنا وهي تطحن عشبة اكليل الجبل المقوية للذاكرة لابنتها التي تؤدي امتحاناتها النهائية قالت وهي تتنفس بعمق:" على الرغم من صناعته القديمة، الا أن جودته تضاهي اي مطحنة كهربائية حديثة، فضلا عن وجوده في المنزل يذكر اولادي بأجدادهم ويجعلهم يتوارثون ذلك الارث 
والتاريخ".
ببساطة اعطت ام مقداد "الهاون" الخاص بها طابع الجودة الحقيقية، حيث أكدت أنه صناعة عراقية اصيلة وانها ورثته من والدتها التي ورثته هي الاخرى عن اهلها فقالت:" انه على ما اظن مقتنى من سوق الصفارين المعروفة قديما، بأمهر الصناع والحرفيين خاصة في الاواني النحاسية".
اما الصحفي رحيم الشمري فقد اشار الى أن" مسك الالة الحديدية النحاسية وصوتها وهي تنزل في جوف اسطوانة تسمى "الهاون" ليطحن البقوليات والحبوب والهيل ورائحته العبقة لا تزال في اذهاننا، فبمجرد سماع رنين تلك المطرقة نعود بذاكرتنا الى الجدة والام والحيوية والبساطة والعطار بالاسواق القديمة ورائحة الحناء والمطيبات من الاعشاب وغيرها، مؤكدا ان الزمن والسنين لا يمكنه اطلاقا ان يمحي وينسي العراقي وحتى شعوب اسيا وافريقيا واوروبا ادواتهم الاصيلة وتراثهم 
الشعبي".