{مدينة السماء} ومياه البحر

بانوراما 2020/10/03
...

  الاسكندرية: بي بي سي
 
قد يبرر التاريخ الحافل لمدينة الإسكندرية جانباً مما اشتهر به أبناؤها من تعصب لها، بات يشكل صورة نمطية عن المدينة التي يحلو لساكنيها أن يسموها بـ {مدينة الرب}.
فالمدينة التي أهلها موقعها الجغرافي الفريد لتكون حاضرة لالتقاء الثقافة اليونانية بالثقافة الشرقية، ومحطاً للمهاجرين من مختلف الأصول والمهن، حازت أهمية كبيرة خلال العصرين الروماني والبيزنطي، حتى أنها عوملت بوصفها مدينة مستقلة عن باقي الأقطار المصرية ووصفت في الوثائق بأنها Alexandria ad Aegyptum أو {الإسكندرية المتاخمة لمصر}.
سيرة غاصة بالكوارث
كما عرفت المدينة سيرة تغص بقصص الحرائق والزلازل والنكبات، امتدت لأكثر من ألفي عام. فكيف يمكن أنْ يسطر الموقع الجغرافي للمدينة، الذي طالما كان مثار النزعة الاستعلائية التي يُتَّهم بها أهلها، آخر فصل من فصول سيرتها الحضارية؟
يحيط البحر الأبيض المتوسط مدينة الإسكندرية من ثلاث جهات وتقع بحيرة في جنوبها، ما يجعلها إحدى أكثر المناطق الساحلية المنخفضة عرضةً لخطر الغرق في العالم. وربما لا يبدو الحديث عن سيناريو غرق المدينة جديدا؛ إذ يطفو على سطح الأنباء كلما صدر تقرير علمي يحذر من وشوكها، وغالباً ما ينتهي الحديث المتجدد بشأن غرق المدينة بتطمينات تركن إلى احتمالية وقوع الكارثة في المستقبل البعيد، دون أنْ تفلح في إيجاد ما يكفي من أدلة لاستبعاد هذا السيناريو. ولكنَّ السطور القليلة القادمة تحمل حقائق علمية تتعلق بظاهرة تغير المناخ تشير إلى أننا قد نشهد المصير المفزع للمدينة في المستقبل القريب.
يقطن نحو 680 مليون شخص (ما نسبته 10 في المئة من سكان العالم)، مناطق ساحلية منخفضة، ترتفع أقل من 10 أمتار عن مستوى سطح البحر، ويُتوقع أن تصل أعداد ساكني تلك المناطق إلى مليار شخص بحلول عام 2050، بحسب اللجنة الدولية لتغير المناخ التابعة للأمم المتحدة.
ويعد هؤلاء الأكثر عرضة للتضرر بظاهرة تغير المناخ، التي تعد سبباً رئيسياً في ارتفاع مستوى سطح البحر؛ إذ تسببت ظاهرة الاحتباس الحراري الناجم عن انبعاثات الغازات الدفيئة في ما شهدته المحيطات من ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة، على مدى العقود التي شكلت القرن الماضي.وتطل دول شمال إفريقيا والخليج وإيران على سواحل الخليج والبحر الأبيض المتوسط وبحر العرب، وتُعد البلدان ذات المناطق الساحلية المنخفضة ودلتا الأنهار الواسعة منها، مثل مصر والعراق، أكثر عرضة لخطر الفيضانات بما تحمله من عواقب كارثية على البنى التحتية والسكان والزراعة وإمدادات المياه العذبة، ناهيك عن الخسائر الحضارية التي ستمتد إلى طي بعض أبرز المعالم التاريخية التي نعرفها في جوف البحر.
 
سيناريو محتوم
لسنوات طويلة، ساد اعتقاد بأنَّ مستويات أسطح بحار العالم سترتفع بنحو أقل من متر، على أكثر تقدير، بحلول عام 2100، ولكن الدراسات الحديثة رجَّحت ارتفاع مستوى سطح البحر بنسبة أعلى بكثير بسبب التسارع المطرد في ذوبان الجليد في غرينلاند وأنتاركتيكا.
وتشير دراسة أجرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، العام الماضي، إلى أن مستوى سطح البحر سيرتفع لأكثر من مترين ما يعني أن العالم سيفقد مساحة من اليابسة تبلغ 1.79 مليون كيلومتر مربع، أي ما يعادل مساحة ليبيا كاملة.
ويمثل هذا السيناريو كارثة للزراعة والأمن الغذائي في مصر، التي يُتوقع أن تشهد غرق مساحة شاسعة من دلتا النيل، تضم مدينة الإسكندرية التي يتجاوز تعداد سكانها خمسة ملايين شخص، ويشكل ناتجها الصناعي نحو 40 في المائة من إجمالي الناتج الصناعي المصري.
وفي حين يشير تقرير للجنة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أنَّ العالم قد يشهد ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار عدة أمتار في غضون بضعة قرون؛ بسبب استمرار ذوبان الجليد في غرينلاند وأنتاركتيكا، يتوقع تقرير أصدرته منظمة المناخ المركزية في الولايات المتحدة تعرض ملايين الأشخاص لخطر الفيضانات الساحلية في وقت لاحق من هذا القرن.
ويتوقع تقرير آخر أصدرته الهيئة الحكومية المعنية بتغير المناخ (IPCC)، أن شواطئ الإسكندرية ستُغمر حتى مع ارتفاع مستوى سطح البحر بمقدار 0.5 متر، ما سيتسبب في تهجير نحو 8 ملايين شخص بسبب الفيضانات في الإسكندرية ودلتا النيل، بحلول عام 2050، إذا لم تُتخذ الإجراءات الوقائية اللازمة.
وبحسب توقعات منظمة المناخ المركزية، التي تستخدم تقنيات حاسوبية متطورة للوصول لبيانات أكثر دقة حول ارتفاع مستوى سطح البحر، سيتضرر نحو 190 مليون شخص حول العالم يعيشون في المناطق الساحلية المعرضة لخطر الغرق بحلول عام 2100.
وتستند الخرائط التي توضح المناطق المعرضة لخطر الفيضانات المستقبلية إلى الإجراءات التي تتخذها الحكومات لتقليل انبعاثات الغازات الدفيئة ومكافحة ظاهرة تغير المناخ.
وتتنبأ دراسة أجرتها منظمة المناخ المركزية، عام 2018، بغرق مساحة تصل إلى 734 كيلومترا في دلتا النيل بحلول عام 2050، ويتوقع أن تتوسع إلى 2660 كيلومترا بحلول نهاية القرن، ما يعني تعرض كامل مساحة الإسكندرية لخطر الغرق.
 
البصرة ومياه البحر
وفي مدن كالإسكندرية المصرية والبصرة العراقية، يُتوقع أن تكون البنى التحتية كالطرق الرئيسة والمطارات أكثر عرضة لخطر الفيضانات.
وفي ما يتعلق بدلتا النيل، تمتد تأثيرات الظاهرة لتشمل الأمن الغذائي لمصر؛ إذ تؤكد التقارير العلمية حدوث حالة تسرب بطيئة لمياه البحر المتوسط إلى أراضي الدلتا المنخفضة بطبيعتها عن سطح البحر، وتتمثل خطورة ذلك في تشبع نحو 60 في المئة من تلك الأراضي الخصبة بالأملاح، ما يجعلها غير صالحة للزراعة، والأزمة هنا أن تلك المنطقة تنتج نحو ثلثي احتياجات مصر من الغذاء.
ولإطلالها على البحر، تمثل قلعة قايتباي أكثر المواقع الأثرية عرضة لخطر الفيضانات في الإسكندرية، وهو ما استجابت له الحكومة بمشروع تتجاوز تكلفته 14 مليون دولار، يستهدف حماية قلعة قايتباي ومكافحة ظاهرة تآكل السواحل عبر إحاطة القلعة بنحو 4700 كتلة خرسانية لحمايتها من ارتفاع منسوب المياه.