تـواقـيع

ثقافة 2019/01/12
...

 
رعـد فاضل
 
• إذا كان ياسبِرز دقيقاً عندما نبّه إلى أنّ الشّعر من جهة كونه" فلسفة جمالِ سلطةٍ هو وحده من يجيد التّعبير الكامل عن ثراء الروح  وشفّافيّتها وامتلائها من سحر الكلمات ومشاهدها الطقوسيّة إلى صورة مصائر الإنسان" إذاً  يمكن القول إنّ حركات الحداثات الشعريّة العربيّة بتجلّياتها المعروفة ليست ترفاً فكرياً وفنيّاً وإنّما هي نتاج منطقيّ للعقل الفعّال من التراث وتجاوزٌ للمستقيل الثابت منه في الآنِ نفسه، كما أنّ كلّ محاولات النَّـيل من هذه الحركة ابتداءً من موقف ابن الأعرابيّ السلبيّ من شعريّة أبي تمّام حتّى الآن إنّما هي عمقيّاً سياسةٌ ارتداديّةٌ  للحطّ من فاعليّة العقل الفكريّ والشعريّ العربيّ وذلك عِبر الايحاء بأنّ كلّ حداثة أو تحوّل هما ليسا من طبيعته أو هو بالمعنى الآخر ليس قابلاً لذلك، فضلاً على تمتّع هذه السياسة بثقافة التشكيك والتأثيم بذريعة الدّفاع عن الأصالة والخصوصيّة...!، ثقافةِ اقصاءٍ والغاء في باطنها وأصيلةٍ منافحةٍ في ظاهرها ذلك أنها ترسّخ لكلّ سائد قارّ وتروّج لكلّ استلهاميّ مؤتلف، ولا تهاجم إلّا كلّ متحوّل مختلف كونه يسعى إلى خلخلة ثوابت الأشياء والعقول ناقلاً إيّاهما من منطقة الكسل والتّرديد والدّونيّة إلى فلك التفكير والتأمّل والتّساؤل والكُثاريّة، وفي ذلك طبعاً خلخلة لسلطة العقل المؤسّساتيّ السياسيّ والفكريّ والروحيّ والاجتماعي. فأن يظلّ العقل الثقافيّ العربيّ بعامّةٍ سياقيّاً اتّساقيّاً معناه بالمقابل مواصلةُ الخضوع لسلطة المؤسسة السياسيّة العربيّة واحديّة التفكير والنّزعة. من هنا يظلّ أصحاب هذه السّياسات ودعاتها والمروّجون لها مصرّين أبداً على أنّ أصالة الشاعر الثقافيّة شرطها الأساس أن لا تصدر إلّا عبر هذه الواحديّة سياقاً واتّساقاً وتفكيراً وطُرقَ تعبير، وما الأصالة هنا وفقاً لهذا الفهم إلّا كما يراها العقل العربيّ الثـقافيّ الأفقيّ الجمعيّ الذي لُـقِّـن لقرون على مناصبة العداء لأيّما عقل ثقافيّ كُثاريّ. أصالة الشّاعر الحقيقية دروس مفتوحة أبداً على الاجتهاد المتفكّر المتسائل والمتحوّل. من هنا ظلّ كلّ نوع شعريّ خارج على السياق الشعريّ العربيّ القديم المتداول نوعاً من "الذّواء والتـّلف"!، فهذا النوع حسب ابن الأعرابيّ أيضاً " بمنزلة الرّيحان يُشمّ يوماً ويذوي، فيرمى على المزبلة، وأشعارُ القدماء مثل المِسك والعنبر، كلّما حرّكته ازداد طيباً"، كأنّ ابن الأعرابيّ هنا لا يصدر  إلّا  عن مضاددة الحقيقة، كأنّه على جانب من تزييف حركة التاريخ، تزييف حاضر الفهم العربيّ (حاضره آنذاك قياساً بأشعار القدماء) ومستقبل هذا الفهم ( فهمنا نحن الآن) بمعنى أنّ الزمن العربيّ لا يتقدّم إلّا  إلى وراءٍ، وما الشّعر حسب فهمه هذا إلّا حركة مربوطة بمثل هذا التقدّم- القهقرى. أو كأنّ العقل الشعريّ العربيّ بطبيعته جامد مستقيل تماماً عن التغيّر والتّجدد والتطوّر، وبذا لا بدّ على الشعر أن يكون مربوطاً هو الآخر بحركة هذا التقدم إلى وراء في الوقت الذي نتطلب فيه شعراً لا يقنّن تِبعاً لمثال شعريّ سبقه، شعراً عابراً للعادات الشعريّة التي تحوّلت إلى قوالب محنـِّطة للفكر والأسلوب الشعريين، شعراً فاعلاً لا ردّاً على فعل" فما الفرقُ بين تقليدك، وبين من قلّدَ غيرَ الذي قلّدتَ أنت؟" كما تساءل ابن حزم في الأحكام قبل عشرة قرون تقريباً!. 
 
• يوصّف أبو حيان التوحيديّ الكلام:" خُذ من التّصريح ما يكون بياناً لك في التّعريض، وحصِّل من التّعريض ما يكون زيادةً لك في التّصريح" حتى يقول عن الخافي والبادي من الكلام: " والهيّة لائـقة، وعبوديّة شائـقة، وخافيةٌ مشوّقة وبادية معوّقةٌ، فاصرف زمانك كلّه في فَـلْي هذه الأثناء، واستنباط هذه الأنباء". إنّه ينزع إلى أنّ التّصريح لا بدّ أن يكون بياناً ولكن عِبر التّعريض. ويقول بالتّعريض من جهة أنّ التعريض هو الإمكان في ايصال المعنى ولكن من غير تصريح أي من غير تسطيح. كما يرى الخافية مشوّقةً والباديةَ معوّقة، أي انّه يرى الكلام نوعاً من الخفاء والسرّ في آنٍ لا نوعاً من الظاهر والعَلن. كما يرى التّلقي تفتيشاً وفَـلْياً ولكن بالاستنباط لا بالتّفسير، وبالاكتناه لا بالتّحديد.
 
• ليكون الشاعر رائياً لابدّ أن يكون  قيّافاً بارعاً لأنّ الشعر الرائي أثـرٌ لا يُكتشف إلّا بالقصّ. وأن  يكون كاهناً لأنّ الشعر يؤول بالِاستكناه لا بالعَرافة.  فلئن كان السّبب الشعريّ فلسفيّاً هو" الواسطة بين شيئين" وعِلّتُه" وصف أو معنىً يحلّ بالشيء فيوجِب له حكماً" فالنّص الشعريّ على وفق هذا الفهم ما هو إلّا السّبب ما بين اللغة والثقافة من جهة وما بين العالَم والإنسان والأشياء من جهة أخرى. أما الشّاعر بهذا المعنى فهو عِلّة ذلك كلّه. الشّعر ذات موصوفة لكنها تظلّ تنبىء عن أشياء مفترَضة ومحتمَلة... ومتى ما التقى الموصوف بالمُفترَض المُحتمَل انحسر الشّعر بانحسار الإبهام والإيهام والإدهاش.
 
• اللغة الشعريّة ليست سياقاً ولا عُرفاً ثابتين، ولا وعاءً ذا أبعاد قياسيّة نهائيّة وإنما اشاراتٌ مُلتبـِسة قياساً بـ: اللغة وحدها. من هنا يمكن أن نفهم واحداً من أهمّ أسباب استبدال دريدا مفهوم الخطاب البنيويّ بمفهوم الأثر التفكيكيّ لأنّه رأى أنّ الأثر الأدبيّ ((محكوم بقوّتين الأولى تـثبّـته والثانية تلغيه)). إنّ طاقة اللغة الشعريّة لا تحدّ من قوّتها الخلّاقة غيرُ طاقة الشاعر نفسه، وهذا ما يجعل من هذه الناحية شاعراً ما مبدعاً مبتكِراً دون سواه لإدراكه أنّ للغة وظيفة سحريّةً في امكانها أن تكون خارج كلّ سيطرة وضعيّةٍ ومعرفيّة. اللغة حسب دوسوسير (( شكل مرِنٌ وليست مادّة))  أي إنّها تظلّ تتشكّل وتبرز عبر أشكال جديدة. وبما أنّ الشكل قوّة تنسج العلاقة ما بين الكلمات، وبما أنّ المادّة هي هذه الكلمات نفسُها فلا يمكن الجزم بأنّ هنالك حدوداً نهائيّة لطاقة كلّ لغة شعرية وفقاً لهذا التوصيف. اللغة شعرياً ليست ممارسة بقدر ما هي انتماء متحوِّل فعّالٌ ومتجدّد. 
              
•بداهةً ليس بين (ما قبل) و(ما بعد) إلّا كلّ متحرّك وهو في الحقيقة حركة الحاضر – حركتُنا التي تشتغل في زمنين: زمن الحاضر... وزمن ما بعدَ هذا الــ (ما بَعْدُ) أي زمن المستقبل الذي من دونه لا يمكن قياس تقدّم حركتنا الحاضرة. ذلك معناه أنّنا نقيس على المستقبل الذي  نتقدّم باتجاهه لا على حركة الماضي إذ إنّ (( الماضي أشبه بالآتي مِن الماء، بالماء))  كما نبّهنا إلى ذلك ابن خلدون.