لماذا سيكون فقراء لبنان ركاب القوارب المقبلين عبر المتوسط

بانوراما 2020/10/18
...

ريتشارد سبينسر 
 
ترجمة: مي اسماعيل 
عاش (سفيان محمد) نحو عامين فقط، 890 يوما، وتزامنت ولادته وموته مع أحداث جسام وسمت انهيار بلده، وبينما جرفت الأمواج جسمه الصغير الى الشاطئ؛ تضاءلت الآمال بانتعاش وطني لبناني؛ في ظل رفض الفرقاء السياسيين الاصلاحات المقترحة وإعلان الرئيس عون (85 سنة) أن الوطن “ذاهب الى الجحيم”.
عندما ولد سفيان (نيسان 2018) كان لبنان يعد دولة مزدهرة نسبيا؛ تعافت من حرب أهلية موجعة قبل ثلاثة عقود لتصير منارة للسياسة الحرة ونمط الحياة الاستهلاكية وموضع حسد منطقة الشرق الاوسط، لم يحلم كثيرون بالمخاطرة بحياتهم في قارب لاجئين مكتظ على درب هجرة عبر المتوسط الى أوروبا؛ فقد كان ذلك شيئا، لا يحاول القيام به الا اللاجئون السوريون اليائسون، لكن حياة سفيان انتهت في قارب صيد تقطعت به السبل من دون غطاء، بين شواطئ لبنان وقبرص يوم التاسع من أيلول 2020. تقول (عبير آسوفي) جدة سفيان، من طرابلس شمال لبنان: “رجوتهم الاّ يذهبوا؛ لأن ابنتي (20 سنة) كانت حاملا، رجوت زوجها أن يتركها وابنها معي، خوفا من مضاعفات أو سقوط الطفل من القارب”. لكن الطفل لم يسقط؛ وبعد يومين بلا ماء أو طعام أو حليب، وبعد أن أعطاه أحد الركاب ماء البحر ليشربه بعدما فقدت والدته الوعي؛ مات الطفل، كان جسمه مليئا بالبثور والكدمات، وتمسكت به والدته، لكنهم ربطوه الى حبل وسحبوه خلف القارب أملا بالحفاظ عليه لأجل الدفن، واخيرا اضطروا لتركه يغرق.
 
انهيار سريع
بدأت الأزمة الاقتصادية والسياسية، التي قادت أسرة سفيان الى قرار الهجرة من لبنان بعد أسابيع قلائل من ولادته؛ حين أدت انتخابات أيار 2018 الى مأزق سياسي؛ إذ تمسك رئيس الوزراء (الموالي للغرب) سعد الحريري بموقعه أمام تحالف مناهض للغرب بقيادة حزب الله، أصبح لبنان مركزا للتنافس الدولي، وطالبه الغرب بإصلاحات سياسية مقابل الاستثمارات، بينما دعمت ايران موقف حزب الله. واستمر المأزق لسنتين، لم يتم عمل شيء لدرء أزمة اقتصادية قادمة، وحينما تخلفت الحكومة عن سداد ديونها (آذار 2019) وقعت الكارثة، فانهارت العملة وحجبت البنوك حسابات العملاء، وقفز التضخم صعودا، وأخيرا وفي حدث رمزي لكنه غير مرتبط بما سبق؛ دمر انفجار هائل في الميناء نصف مدينة بيروت (آب 2020). وكان الانفجار بالنسبة للكثيرين اللطمة الاخيرة التي هدمت نظاما غير فعال.
يقول ابراهيم لاشين (23 سنة)، الذي يعيش قرب منزل سفيان في حي للعمال بطرابلس، إن الانفجار جلب ادراكا واضحا أن حظوظ أسرته تدمرت بلا أمل بالاصلاح. كانت اسرته الممتدة تعتمد على اجور والده )محمد) الذي يعمل بمحل حلويات وسط بيروت، الذي بات يعمل يومين اسبوعيا منذ الانفجار، وتناقصت أجرته الى الثلث؛ وهو تناقص ضاعف من حدته تراجع قيمة العملة، انزاح النظام الذي كان يعتمد التصريف الثابت للدولار بمبلغ 1500 ليرة ليحل محله سعر السوق السوداء ليصير الدولار= 7500 ليرة، فهبط راتب محمد لاشين بالقيمة السوقية من 1000 ليرة شهريا الى 70! لذا لا يصعب فهم قراره باستدانة المال وبيع أثاث الاسرة ليجمع ثمن شراء مقعد لولده على قارب الهجرة، كانت خيارات ابراهيم في وظائف العمالة العرضية قد نفدت منذ زمن، لذا انضم لمجموعة من الاصدقاء العاطلين، منهم محمد سفيان (21 سنة) والد الطفل سفيان، و(محمد خلدون) من حي بائس مجاور، ودفعوا للمهربين المبالغ المطلوبة، لكن العملية برمتها كانت خدعة؛ كما اتضح لاحقاً.
 
قارب ينجرف!
قابل المهاجرون (وعددهم 45) المهربين على رصيف شاطئ تغمره النفايات في طرابلس يوم 7 أيلول؛ بعدما قيل لهم إن القارب سيحمل 25 شخصا فقط، كما قيل لهم إن عليهم التوجه لنقطة معينة ينتظرهم فيها قارب آخر، وأن ممتلكاتهم والطعام والملابس وحليب الاطفال (التي أُخذت منهم) ستكون على ذلك القارب، الذي سيقودهم الى قبرص، لكن القارب الثاني لم يكن موجودا، وبعدها بقليل نفد الوقود، بدأ القارب بالانجراف، وفقد الركاب الوعي تحت حرارة الشمس دون غطاء. وحين مات سفيان؛ وقف محمد خلدون وأعطى قميصه لوالدي الطفل ليكون كفنا له، وقفز من القارب قائلا إنه سيعود بالمساعدة، لكنه لم يعُد، خلال الايام التالية حاول رجال السباحة؛ طلبا للمساعدة ولم يعودوا، بينما مات آخرون؛ منهم طفل آخر وإمرأة سورية وعامل هندي مهاجر. أخيرا جاء دور ابراهيم للسباحة؛ وعن ذلك يقول؛ بعد عودته الى طرابلس وهو هزيل، يعاني حروق الشمس ولسعات قنديل البحر: “أردتُ فعلا أن أموت؛ ولم ارغب بالعودة الى داري؛ لكنني ايضا لم ارد الموت في القارب”. كان ابراهيم وسط الماء حين هبط الليل، وحين طلعت الشمس، كاد يفقد الوعي مرارا؛ لكن اللسعات أيقظته، أخيرا رأته سفينة اندونيسية هي جزء من قوة الأمم المتحدة، التي تراقب المياه والأرض بين لبنان واسرائيل، فقد ابراهيم الوعي حين انتشلوه، وأفاق لاحقا ليخبرهم عن محنة القارب المنجرف، فقد وجدت السفينة القارب بواسطة الرادار، وانتشلت سفينة تركية (من قوة الامم المتحدة) 36 ناجيا. 
الحديث عن الانهيار الاقتصادي في لبنان ليس مجرد استعارة؛ إذ قدرت دراسة للامم المتحدة أنه خلال الأشهر الستة بين رفض مقترحات الاصلاح، التي قدمها الحريري في الخريف الماضي وبين شهر أيار هذا العام (بعد انهيار العملة)؛ ارتفعت نسبة اللبنانيين الذين يعيشون الفقر نحو 28 بالمئة لتصير 55 بالمئة، وارتفعت نسبة الذين يعيشون فقرا شديدا الى 23 بالمئة، ثم ارتفعت تلك النسب بعد إغلاق جائحة كورونا، كان الانهيار غير متوقع الى درجة أنه قاد الى نزعات اجتماعية كانت ستسبب الضحك لو لم تكن دليل يأس، فقد طلب لص ظهر على كاميرات المراقبة الغفران من الله بعد اقتحامه صيدلية، بحثا عن حفاظات الاطفال؛ وهي سلعة أصبحت غالية الثمن، لأنها مستوردة! وسطا رجل على محفظة أحدهم ثم اعادها له وهو يبكي؛ قائلا إنه كان جائعاً.
 
“ الفقير لا يرعاه أحد!”
قال “عدنان اسماعيل” جد الطفل سفيان إن ثمن حليب الاطفال والحفاظات كان الطامة الأكبر لابنته وزوجها؛ وقد خدعهم المهربون بأنهم بعد وصولهم لقبرص سيتمكنون من السفر الى ألمانيا، كما فعل السوريون، في الواقع أبرمت قبرص اتفاقا مع لبنان لإعادة جميع قوارب المهاجرين؛ وقد أعيد قارب وصل قبرص بعد 36 ساعةن يصف عدنان ابنته وزوجها بالسذاجة؛ لكنهم كانوا أيضا ضحية قسوة طاحنة: كسب المهربون وقتا اضافيا قبل تحريات الشرطة، بإرسال رسائل صوتية الى هواتف أسر المسافرين بأنهم وصلوا الى قبرص، لكنهم لا يستطيعون الاتصال لخضوعهم للحجر الصحي لمدة اسبوعين، ولم تكن تجربة العودة للشاطئ أفضل بكثير؛ فقد رفضت المستشفيات الخاصة التي أُخذوا اليها علاجهم لعدم وجود المال، وفرضت قوات الأمن غرامة فورية على ابراهيم لاشين؛ الذي ضمنت سباحته البطولية نجاة 36 شخصا على متن القارب؛ لأنه أضاع بطاقة هويته. 
كشفت تجربتهم عن حقيقة أساسية؛ إذ رغم كون الكثير من اللبنانيين ينتمون بالفعل للطبقة الوسطى قبل الانهيار الاقتصادي، فإن اقلية كبيرة منهم تمثل طبقة عاملة مهملة قليلة التعليم تمارس أعمالا مؤقتة، اختفى دورها الآن ولديهم من القواسم المشتركة مع اللاجئين السوريين أكثر مما لديهم مع موظفي بيروت الانيقين؛ الذين بات كثير منهم يغادرون نحو الغرب أو دبي أو دول خليجية اخرى. في أحياء طرابلس الفقيرة؛ حيث لا توجد المؤهلات المطلوبة للعمل خارج البلد؛ باتت قوارب الهجرة الخيار الوحيد، كانت تلك الأحياء مصدر خجل للصفوة اللبنانية قبل الأزمة؛ ولم يتغير شيء منذ ذلك الحين. 
يقول ابراهيم لاشين إنه سيعاود الكرّة ثانية اذا سنحت له الفرصة، وتخشى أسر الباقين ألا تردعهم قساوة التجربة عن المحاولة ثانية، ووحدها فرصة العمل أو المساعدة الحكومية قد تقف في الطريق، يؤكد عدنان أنهم لم يتلقوا زيارة رسمية ولا عرضا للمساعدة؛ قائلا: “هناك قانون في لبنان ينص أنك اذا كنت فقيرا فلن يرعاك أحد”، وهذا قول باتت الدولة كلها تتعامل معه الآن.