الملحن الموهوب والدمج

الصفحة الاخيرة 2020/10/19
...

سامر المشعل 
التلحين موهبة تصقل بالعلم والمعرفة، إذ تتوفر لدى الملحن القدرة على خلق جمل موسيقيَّة للنص الشعري توضع بإطار موسيقي يسمى (الميلودي). وأنْ يأتي الملحن الموهوب بصيغٍ لحنيَّة جديدة ومتفردة عن الذين سبقوه، ليؤكد حضوره الإبداعي، لذلك في كل جيل يظهر عددٌ محدودٌ من الملحنين تبقى أعمالهم حاضرة في الذاكرة الإبداعيَّة.
ربما تكون موهبة التلحين فطرية من دون دراسة أكاديميَّة، أو حتى العزف على آلة موسيقية.. يعتمد على السماع والمعرفة الشفاهية والحسية على سبيل المثال الفنان الريفي داخل حسن وناصر حكيم وحضيري ابو عزيز.. وغيرهم.. فهؤلاء لم يدخلوا معهداً للموسيقى. كانت ثقافتهم سماعيَّة من الذين سبقوهم وجايلوهم وأخذوا منهم طرق الغناء، لكنهم تركوا لنا إرثاً غنائياً جعل الكثير من الأكاديميين ينالون شهادات عليا في طرق غنائهم والأطوار التي ابتكروها. والكثير من المطربين الشباب أعادوا تقديم أغاني الراحل داخل حسن، حتى ظن أبناء هذا الجيل أنها أغانٍ حديثة ومنهم المطرب كاظم الساهر ومحمد السامر والمطرب صلاح حسن وغيرهم.
بذات الوقت إنَّ الدراسة إذا لم ترافقها الموهبة، لا تنتج لنا ملحناً مهما، ربما يظهر لنا عازفٌ متمكنٌ، وليس بالضرورة أنْ تخلق ملحناً موهوباً، لذلك كل عام يتخرج مئات من الطلبة من معاهد وأكاديميات الموسيقى، قلما نجد منهم من يبزغ نجمه في عالم التلحين.
استسهال الدخول الى ساحة الغناء، جعل الكثير يتسلل الى منطقة التلحين ويطرح نفسه ملحناً، وهو لا يمتلك المقومات الإبداعيَّة والمؤهلات الفنيَّة وتوفر الموهبة.. وهذا ما جعل الألحان غير مؤثرة ومسروقة ومستنسخة، تعتمد أغلبها على الإيقاع السريع بألحانٍ نمطيَّة استهلاكيَّة، بالتالي لم تستطع أغلب هذه الأعمال المكوث في الذاكرة.
في ما مضى كان الملحن يأتي متسلحاً بالموهبة والقدرة على الإبداع، وعليه أنْ يتخطى لجنة فحص الألحان، ليؤكد موهبته، ليس هذا وحسب، إنما كان الملحن يتعايش مع المطرب والشاعر لولادة عمل جديد.
ايضاً كان المطرب يبحث عن النص الملائم والقصيدة المناسبة للغناء، وإلا كيف اهتدى الفنان ناظم الغزالي الى قصيدة "أي شيء بالعيد أهدي إليك" للشاعر ايليا ابو ماضي، ويدفعها الى الملحن ناظم نعيم، ليبدع في تلحين هذا العمل الخالد، فقد كان الغزالي باحثاً ويحمل مسؤولية، أنْ يأتي بكل ما هو جميل وجديد على أذن المستمع، ما جعله يقدم أغاني مثل "ريحة الورد ولون العنبر"، و"تصبح على خير" اللتين كتبهما جبوري النجار بمنتهى الرقة والشفافية لمخاطبة الحبيب، فكان خلف هذا الإبداع فنان أو ملحن باحث ومتأمل للجمال.
في أحد لقاءاتي مع الملحن الكبير طالب القره غولي، كشف لي أنَّ لحن أغنية "البنفسج" للشاعر الكبير مظفر النواب، لحنها بالمنام!، وقال لي: "وصلت الى مقطع" شلون اوصفك.. ثم توقف اللحن، لم أتمكن لمدة شهرٍ كاملٍ، استغرق مني قلقاً وتفكيرا، من دون أنْ أدخل بالمقطع، وبينما كنت في المنام، أفكر في كلمات الأغنية، لحنت المقطع، وأول ما استيقظت من الحلم، مسكت العود وفتحت جهاز التسجيل، ليظهر اللحن مثلما لحنته بالمنام".
هذا يؤكد أنَّ الملحن الحقيقي، كان يستغرقه العمل ويتلبسه في يقظته ومنامه.