مواقع التراث العراقي تواجه موجة نهب جديدة

بانوراما 2020/10/21
...

   سيلفين ميركادير- محمد شياع- آلاء غولي 
 
   ترجمة: أنيس الصفار                                  
بموقعه في قلب وادي ما بين النهرين الموغل في عمق التاريخ بقي العراق بمواقعه الأثرية الغنية عرضة لأعمال النهب على مدى القرون وهدفاً مغرياً يجتذب اليه النهابين واللصوص، لكن السنة الحالية التي تميزت بانكماش الموارد المالية المخصصة لحماية المواقع، والضائقة الاجتماعية التي تسببت بها جائحة «كورونا»، شهدت عودة متصاعدة لتلك الأعمال.
فوق سطح الأرض في العراق وتحت ترابه ترقد طبقات تلو طبقات مما خلفته حضارات، أغلبها لم يستكشف بعد، فوفقاً لعملية مسح ميدانية أجراها مكتب مفتش الآثار خلال الفترة 2005– 2010 وجد أن محافظة ذي قار وحدها تضم اكثر من 1200 موقع أثري، لا تزال شبه مجهولة، من بينها مدينة أور المذكورة في الانجيل، حيث ولد النبي ابراهيم، التي يقارب عمرها 6000 عام. لم تمس التنقيبات من هذه الآثار سوى خمسة بالمئة منذ اكتشافها سنة 1855.
عدا هذا الموقع الاسطوري، المسيج بشكل كامل، هناك مواقع اثرية أخرى لم تتوفر لها حماية كاملة بسبب افتقار العراق الى البنى التحتية والإمكانيات البشرية المطلوبة لصون هذا التراث الثمين.
يقول عالم الآثار علي الربيعي ان هذه المواقع كانت عرضة لغارات النهب منذ وجدت، لكن النشاطات تصاعدت خلال العقود الأخيرة، بدءاً من الحصار الذي فرض خلال الفترة 1990– 2003 ولم تتوقف أبداً رغم وجود عقوبات صارمة على من يمارسونها، فقد دفع ضعف مؤسسات الدولة وسوء الأوضاع المعيشية، جراء العقوبات الاقتصادية الدولية آنذاك، الأهالي الى التورط باعمال النهب والسرقة، لأن السكان وجدوا في الآثار وسيلة لكسب معيشتهم تحت ظل اقتصاد ممزق.
كانت معظم بعثات التنقيب الآثاري قد أتمت عملها قبل وقوع الغزو الأميركي للعراق سنة 2003 ووجد السكان الذين كانت توظفهم تلك البعثات انفسهم بلا عمل، فأخذوا يعودون الى المواقع بقصد نهبها، وحدث ذلك مثلا، كما يقول الربيعي، في موقع تل جوخة (المعروف بأم العقارب)، وهو موقع مملكة أوما (أو أور) السومرية، تل جوخة هذا يعد رمزاً شاهداً على الخراب الذي وقع عقب الغزو الأميركي وأسفر عن اعمال نهب واسعة.
في اعقاب تلك الكارثة تدخلت سلطة دينية قوية ضمن محاولة للجم النشاط من خلال اصدار فتوى، تلك الفتوى التي اصدرها آية الله علي السيستاني، حثت الكثير من ناهبي الآثار على إعادة ما عثروا عليه، ولكن عصابات كثيرة بقيت فعالة ونشطة.
هذا المجمع الآثاري لا يزال الى يومنا يحتضن سبعة مواقع منفصلة عن بعضها، لكن عدد الحراس القائمين عليه لمنع اللصوص والمتطفلين قليل، لذلك أخذ الأهالي المحليون على عاتقهم مهمة الدفاع عن تراثهم على قدر ما يتمكنون.
لجأ ابو احمد، وهو رجل عمره 60 عاماً من قرية المراشدة القريبة، مع جيرانه الى اسلوب تهديد اللصوص الذين يأتون من مناطق أخرى، يقول ابو احمد: «تحدث الانتهاكات اثناء الليل عادة، ولكن لا يجرؤ أحد على الاقتراب من المواقع القريبة من مساكننا لأنهم سيقعون ضمن مرمى نيراننا.»
بيد أن أهالي منطقة تل جوخة ليسوا الوحيدين الذين يحملون اسلحة، فاللصوص ايضاً صاروا يأتون وقد استعدوا لمواجهة من يحاول صدهم ومنعهم عما يريدون.
يقول ابو احمد: «في السنوات القليلة الأخيرة صرنا نرى سيارات تأتي محملة بالأشخاص ثم تدخل تل جوخة لكننا  نعلم انهم لصوص مسلحون وخطرون واننا لسنا قادرين على صدهم.»
 
صراع للحفاظ على الماضي
تفترش المواقع الأثرية في محافظة ذي قار مساحات شاسعة من الصعب حمايتها، لا سيما بالمستوى الحالي لقوات الشرطة، كما يقول طاهر كوين مدير مفتشية ذي قار للآثار، ولأجل معالجة هذه المشكلة أجرى قسم الآثار لقاءات خاصة مع قيادات الشرطة المحلية وصار الاتفاق على زيادة حجم القوة التي تراقب المواقع الاثرية. منذ سقوط نظام صدام توالت المساعي الهادفة لإعادة بناء جهاز شرطة مخصص لحماية الآثار، وقد تلقت هذه القوة تدريبات خاصة على اعمال الحماية والاعتقال، خلال الشهر الماضي نجحت القوة المذكورة باعتراض نشاط شبكتين لتهريب الآثار، كما طاردت مجموعتين مسلحتين في منطقة تل جوخة، وتمكنت من استعادة 438 قطعة أثرية، رغم هذا يبقى تل جوخة من اشد مواقع العراق الاثرية تعرضاً للعبث والتخريب بسبب اتساع رقعته وطبيعته المنعزلة.
 يقول طاهر كوين ان العبث بالآثار عاد للتصاعد خلال السنة الماضية، خصوصاً بعد الاحتجاجات العارمة التي شهدتها المحافظة ومن بعدها وباء «كورونا»، نتيجة لذلك انسحب كثير من افراد القوة العاملة في الناصرية لائذين بثكناتهم خشية التعرض لأعمال الانتقام من قبل العشائر المطالبة بالثأر لمقتل المحتجين، فخلق هذا فراغاً جديداً في المحافظة وحال دون توفر القدرات الكافية لحماية المواقع التاريخية.
أخيراً استطاع كثير من افراد القوة العودة الى مواقعهم وممارسة واجباتهم، بيد ان تفشي وباء كورونا وما تلاه من تداعيات أوجدت اوضاعاً اقتصادية هشة كان لها دورها ايضاً بتزايد اعمال النهب.
يقول صالح حاتم، الباحث بالآثار من جامعة القادسية بالديوانية: «عمد العراقيون، بعد أن نال منهم الفقر، الى نهب المواقع بحثاً عن الذهب او التماثيل، وبذا خربوا الأبنية والعمارة والرقم الطينية التي يعتقدون ان لا قيمة لها في أعين المهربين.»
 
تراث يهرّب
يتمثل جوهر الخطر الذي يهدد تراث العراق في ان الحفاظ على الآثار وحمايتها لم يرقيا يوماً الى منزلة الأولويات في أعين صناع القرار العراقيين، أو حتى  في نظر القوات الأميركية التي احتلت البلد.
الشيء المعتاد هو أن تهرّب اللقى والقطع الأثرية المسروقة الى الأردن او تركيا لتباع بعد ذلك عن طريق الاسواق السوداء المنتشرة في المنطقة، ثم ينتهي بها المطاف الى المجموعات التابعة لأشخاص.
تقوم جهات دولية بالتحقيق في اي مكان من العالم لتحديد اماكن القطع، التي سرق معظمها خلال فترة الاحتلال الأميركي، بعد ذلك تعمل السلطات العراقية على استعادتها.
من ناحية اخرى ينبغي رفع كفاءة القوات المحلية المخصصة لحماية التراث العراقي، وهذا يشمل التعامل مع اوضاع اخرى عدا النهب والسرقة، مثل تجاوز الفلاحين ومربي الماشية على المنطقة،  فهناك تقارير تفيد بأن المزارعين ينصبون مضخات المياه في المواقع الأثرية او يواصلون الحفر حولها وعبرها لأجل توسيع المساحات التي يزرعونها.
يقول صالح حاتم: «يستخدم المزارعون الجرافات داخل المواقع الأثرية تمهيداً لزراعتها.» كذلك يتكرر دخول المواشي الى المواقع الاثرية طلباً للمرعى، وكثيراً ما يؤدي ذلك الى تخريب الأبنية القديمة المتداعية التي لا تزال قائمة.
لقد تسبب غزو العراق في العام 2003 باضرار تصعب معالجتها للشعب العراقي وتراثه، ولكن حالة عدم الاستقرار المستمرة الى الآن تؤدي الى تصاعد حجم هذا الضرر وتتيح الفرصة لتوسع نطاق عمليات النهب.
في ظل الصراعات والفقر اللذين ابتلي بهما العراق جاءت جائحة «كوفيد-19 « لتضيف عاملاً آخر لحرف جهود العراق وموارده عن صيانة تراثه الثقافي الفريد وحمايته، كما يضيق انخفاض أسعار النفط الآفاق أمام التعافي الاقتصادي، ولهذا انعكاساته
 كذلك.