ياسين طه حافظ
في أزمير، وأنا جالسٌ استريح بعيداً عن صخب السوق ومن الاحتيال والإغراء الملح في الشراء واكاذيب الباعة اللوذعيين في ندرة هذه البضاعة او تلك ووشك نفادها إلّا بضعة بقيت .. استنشقت هواءً طلقاً واستعدت عافيتي وبعضاً من انسانيتي ذلك الذي أضعته في الزحام واختلاط الاصوات والبضائع وألوان حركات الأيدي والأوجه في المخادعة والمنع من تجاوز واحدهم الى سواه.
كانت جلسة ناعمة مثلما كانت استحماماً واستراحةً مما كان. لم أعبأ بتأخر صديق انتظره ولا استغرب ان غير رأيه فلا يأتي. فهو ليس من نمط المبدعين المتميزين بالرصانة واكتمال القيافة والسلوك الرسمي المحترم. هو من تلك الجوقات التي انتشرت في العالم عقب الحرب العالمية الثانية ووصل الشرق موجها في الستينيات مع اخلاقهم وكثرة كلامهم وسأمنا منهما ومنهم. لكنه جاء وأن تأخر عن موعده وبذلك البهرج الذي أحبه فيه. ابتدأ بفتح ذراعيه: ستقول لماذا تأخرت وستعتب، بأنّي لست أديباً واني ألفت قذارات العالم ... جلس قبالتي يلهث قليلاً. وهنا مرَّ بنا رجلٌ كهلٌ أكل منه الدهر أكثر من المعتاد فبدا متهالكاً بالنسبة لعمره. قال لي صاحبي: كان هذا الرجل زاهي الشباب مزدهراً ثروةً وفرحاً وعافية. هو الآن يسكن في شقة في زقاق ضيق يتسلى ليلاً بتذكر بيته الكبير وموائده والضيوف محاطاً بصدق وكذب ومختلط الثناءات
والاعجاب. لو استدعيناه لسمعنا منه كلاماً يصلح قصيدةً أو رواية. خزانة أفكار هو وخبرات مقفل عليها في مسرح مهجور. تعلم اني أعيش هنا منذ عشر سنين. أبقتني الصدفة ووجدت مكاناً لا بأس به وهكذا عشتُ. حيثما تكون كأس ونبيذ وفرص تقول لك استمر هنا، سيأتي الافضل. جاء أو لم يجئ، ها أنا أمضيت سنين. سيعود الرجل من هنا لو انتظرنا ساعةً او اقل، سيعود. فليس غير ان يشتري خبزاً وحليباً ويعود. ودائماً معه عسل. يقول: "ان العسل خلاصة العالم. وانه من غير عسل سيموت ..".وهكذا طلبنا قطعة كيك مع الشاي ووجدنا مستراحاً ونحن ننظر الى حشود البشر، مجرى لا تدري الى اين. قال صاحبي: "اتلومني ؟ كل هؤلاء سيموتون!" قلت له: "لا ألومك ولا ألوم نفسي. ماذا نستطيع ان نفعل. حقيقة ضخمة مرعبة. لا نستطيع ان ننكرها ولا نستطيع تقبلها بسهولة. انت بين ذراعي كلابتين هائلتين، ارفس قليلاً او اضحك.. أكمل طعامك واشرب لتستسيغ!".
وهنا لمحنا الرجل يعود بخطواته الوئيدة ولا مبالاته بالعالم. صار أمامنا فنهض صاحبي وحياه واستوقفه أكثر ثمّ دعاه لكوب شاي او فنجان قهوة مع ضيف، قال له، من بغداد...
تريث الرجل قليلاً ثم رضيَ فجاء حيّاني بنوعٍ من الادب او الخشوع او عدم الحكم. جلس من دون اي كلام وكأنّه ينتظر شيئا يصل حتى يبدأ. ثم بدأت تتغير ملامحه، قلت سيتكلم، سيبدأ بشيء ولكنه عاد الى سكونه الغامض. يبدو أنه أدرك انتظارنا او بدء نفاد صبرنا، فرمقني بنظرة استياء وعاد كأنْ يسامحني على خطأ اقترفته. استدار غير راضٍ. دقيقة وعاد ثانية يمعن النظر وكأنه يستجمع أفكاره او يقلّب أمراً، ثمّ قال لي: "وأنت يا رجل تركت ألف ليلة وليلة لتجيء لهذا البؤس اللا نهاية له!" قلت مبتسماً: لا ألف و لا ليلة. تلك كانت حكايات. البؤس واحد حيث نكون. بقيتْ دقائق الحظ أو دقائق الفرح .." هزَّ رأسه: "نعم تلك حكايا. تلك عقاقير للحزن. تلك رحلات خلاص من العالم. الحكايا صارت عوالم نعيشها وسط العالم. هؤلاء هم المخترعون العظام، من يخترعون خلاصاً ! حاول من ألف ليلة في بؤس عالمك ان تجد ليلةً لروحك قبل أن يضيع كل شيء. عليك، عليك بالليلة بعد، عفواً بين، الألف، أعني الليلة الطارئة! وإلّا فستظل مثلي، لا تملك شيئاً، تمضي لتشتري خبزاً وحليباً وتعود.." ونهض مغادراً من دون تحية ولا وداع.