انهيار قطاع الطيران العالمي

بانوراما 2020/10/25
...

سامانث سوبرامانيان
ترجمة: خالد قاسم
لم يضرب فيروس كورونا قطاعات كثيرة أقوى من السفر الجوي، اذ أزال عشرات آلاف الوظائف ومليارات كثيرة من الايرادات، وبينما توقفت معظم الأساطيل عن التحليق، فقد أجبر هذا القطاع على اعادة تصور مستقبله. عندما لا تحتاج شركة طيران إحدى طائراتها فترسلها الى منشأة تخزين، حيث تمكث بالهواء الطلق على قطعة أرض معبدة، جنبا الى جنب مع طائرات أخرى غير مرغوبة، شيدت أكبر مقبرة طائرات أوروبية على موقع مطار من ثلاثينيات القرن الماضي في شرق اسبانيا، حيث المناخ الجاف مناسب لهذه الهياكل المعدنية، وتتواجد طائرات كثيرة هناك لتخزين قصير المدى بانتظار تغيير مالكيها أو خضوعها للصيانة، واذا صار مستقبلها أقل وضوحا ستدخل التخزين طويل المدى. 
خلال شباط الماضي وجه باتريك ليسير المدير التنفيذي لشركة تارماك أيروسيف المالكة لمقبرة طائرات تيرويل الاسبانية وثلاث أخرى في فرنسا، أنظاره نحو الصين. ويمتلك باتريك خبرة طويلة بمجال الطيران تجعله يتذكر تعطيل الرحلات خلال وباء سارس في العام 2003، وعندما انتشر كورونا خارج قارة آسيا عرف ما سيأتي: “بدأنا بتوفير مجال في مواقعنا، ومن خلال المناورة في التخزين نتيح مساحة لعدة طائرات بكل موقع.”
عند نهاية آذار وبعد اغلاق الولايات المتحدة أجوائها أمام أوروبا، بدأت الطائرات بالتدفق على “مقابر” الشركة، ولا يعرف أحد اذا كانت ستبقى لفترة وجيزة أم تخزّن لسنوات. وشهد يوم 3 نيسان وحده استلام مقبرة تيرويل خمس طائرات بوينغ 747 وطائرتي بوينغ 777، ووصلت طيلة الأسابيع القليلة اللاحقة طائرات شركات لوفتهانزا وآير فرانس والاتحاد وبريتش إيرويز. وكان عدد طائرات تلك المقبرة قبل الوباء 78 طائرة، لكنه ارتفع في حزيران الى 114 مقتربا من الطاقة القصوى البالغة بين 120- 130 طائرة، ويذكر باتريك أن مواقعه الثلاثة الأخرى “اقتربت من التشبع” في تموز.
 
معاناة مزدوجة
من بين جميع المجالات التي ضربها الوباء واجه الطيران ضربتين في آن واحد، فمن جهة كان هناك خوف من العدوى، اذ لا يعتمد قطاع آخر على وضع الأشخاص جنبا الى جنب لساعات، ومن جهة ثانية هناك الاقتصاد المتعثر، فمن البديهيات في الطيران أن السفر جوا مرتبط بالناتج المحلي الاجمالي وعندما يمتلك الأفراد أموالا اضافية سيسافرون ساعات اضافية، لكن وسط هذا التراجع التاريخي لا أحد يستطيع شراء تذاكر طيران.
تضررت شركات الطيران في السابق من أحد هذين العاملين فقط، فخلال وباء سارس كان السفر غير آمن لكن الاقتصاد العالمي لم يتراجع، وخلال أزمة 2008 المالية حصل شح بالنفقات لكن الطيران لم يتعرض للخطر، ومنذ بدء الطيران التجاري قبل 110 سنوات لم تقع مثل هذه الضربات سوية حتى العام الحالي.
كان هبوط الطائرات الاضطراري بهذا الشكل غير متخيل لدى الزبائن والمستثمرين وشركات الطيران قبل الوباء، اذ شهدت الرحلات الجوية التجارية نموا كبيرا طيلة العقدين الماضيين، ففي العام 1998 باعت شركات الطيران نحو مليار ونصف مليار تذكرة وارتفع هذا الرقم بحلول العام الماضي الى اربعة مليارات ونصف مليار تذكرة. لكن العام الحالي ألغى كل ذلك، ونشر اتحاد النقل الجوي الدولي في آذار سيناريوهين محتملين؛ الأكثر حدة منهما توقع خسارة عالمية للايرادات بمقدار 113 مليار دولار. وأصدر الاتحاد مراجعة لتوقعاته في حزيران قائلا” إن الايرادات ستهبط بمقدار 419 مليار دولار هذا العام، أي نصف ما كسبته شركات الطيران في 2019”.
واجهت شركات الطيران قبل الوباء دافعا مختلفا لتقليل وقت الرحلات، فالطيران يمثل 12 بالمئة من كل انبعاثات ثاني أوكسيد الكاربون لقطاع النقل بأكمله، والطيران رخيص وسهل جدا الى درجة تمكننا من حجز تذكرة عبر تطبيق الكتروني خلال ثوان معدودة. وتنتج رحلة بين لندن ونيويورك ذهابا وإيابا 1972 كيلوغراما من ثاني أوكسيد الكاربون أي أكثر من معدل انتاج الشخص الواحد في مدغشقر أو كولومبيا خلال سنة كاملة.
يحتاج الأفراد أكثر من أي وقت مضى الى كبح عاداتهم الاستهلاكية حتى مع تكاسل الحكومات وكبرى الشركات باتخاذ ما يلزم لتقليص نفقاتها على الكاربون. وفي الوقت نفسه، تؤكد لنا شركات الطيران أن قيودنا الذاتية مؤقتة فقط، وأن بعض حلول الانقاذ التكنولوجي مثل طائرة تعمل بالبطارية أو الهيدروجين ستعيدنا الى عاداتنا قريبا جدا. وقد برزت حلول انقاذ تقنية مختلفة هذا العام مع تعثر شركات الطيران، لأن مدراءها يحاولون ادارتها حتى مع بقاء الطائرات على الأرض، ويبدو مستقبل الرحلات معتمدا على اكتشاف لقاح ناجح للفيروس.
 
مئوية حزينة
تصف شركة “كي إل أم” الهولندية نفسها بأقدم شركة طيران تجاري عالميا، ويعني ذلك أنها أقدم ناقل جوي لا يزال يعمل باسمه الأصلي، احتفلت الشركة بتشرين الأول من العام الماضي بمرور 100 سنة على انشائها، وشعر مديرها التنفيذي بيتر إلبرتس بالسعادة آنذاك، انضم بيتر للشركة عام 1992 عندما كان يبلغ من العمر 22 سنة وعمل بمختلف أنحاء العالم قبل بلوغه القمة العام 2014. وعند حلول كانون الأول 2019 طار بيتر الى عدة مكاتب عالمية للشركة للاحتفال بالمئوية وبعد اسبوعين على ذلك سمع أولى الهمهمات عن فيروس جديد غريب.
رأى بيتر وزملاؤه أن الصين سرعان ما ستحتوي المرض، ولذلك قللوا عدد رحلات الشركة اليها وأعادوا توجيهها الى وجهات أميركية بدلا من ذلك. ومع حلول شباط انتشر الوباء الى أوروبا وأعلنت هولندا حالة اغلاق في آذار، أما داخل مكاتب “كي إل أم” فقد استمر بيتر وبعض المدراء بالحضور للعمل ومواجهة الأزمة. 
تعد عملية النمو بطيئة عادة في قطاع الطيران، فطلبيات الطائرات تقدّم مسبقا قبل سنوات، ويجري تدريب الطيارين وتحضير المسارات بعناية كبيرة، لكن خلال الوباء يجب اتخاذ القرارات بسرعة غير معتادة، فعلى سبيل المثال بنهاية آذار الماضي كانت رحلة للشركة الهولندية فوق مدينة نوفوسيبيرسك الروسية متجهة الى شنغهاي وجرى ابلاغها أن كل رحلة قادمة يجب حجر أفراد طاقهما لمدة 14 يوما في مستشفى حكومي صيني، وكانت تلك القاعدة جديدة للغاية بحيث أنها لم تكن مطبقة عندما غادرت الطائرة أمستردام، اذ تغيرت الظروف وسط الرحلة. وتدافع المسؤولون للحصول على استثناء مصدّق من السلطات الهولندية والصينية، ما يسمح ببقاء الطاقم على متن الطائرة في شنغهاي واعادتها بعد 18 ساعة.
يلتقي ممثلو شركات الطيران عادة مرتين سنويا في “مؤتمرات تشغيل” لتقاسم محطات الاقلاع والهبوط بمطارات العالم للموسم المقبل، كما يقول فينسنت فان هوف المشرف على عمليات طيران كي إل أم، ويضيف” لسنا في نشاط حسب الطلب، لكنها الآن لعبة جديدة بالكامل، هل سنبقى نطير الى لندن غدا؟ هل سنحتاج الى محطات أكثر لرحلات العودة الى الوطن؟”
 
حسابات التكاليف
وسط هذه الفوضى فتأثيرات الوباء في الطيران تبدو مفاجئة وضخمة، لكن محلل السوق “ريتشارد أبولافيا” له وجهة نظر أخرى ويقول “لم يحدث أمر جديد، لكن الأحداث سريعة”. ويعمل ريتشارد نائب رئيس المحللين بمؤسسة أبحاث “تيل غروب” ويبعث شهريا رسالة اخبارية مكثفة تجري قراءتها على نطاق واسع بهذا القطاع، وكانت توقعاته في آيار أن شركات الطيران ستدخر الأموال وتختار طائرات أصغر وأكثر كفاءة وتختار مسارات مباشرة من دون توقف، تاركة خلفها الشبكات القديمة للرحلات متعددة المراحل، لكن تلك التغييرات كانت جارية منذ العام الماضي وجعلها فيروس كورونا فعلية أكثر.
كان سعر وقود الطائرات خلال عقدي السبعينيات والثمانينيات رخيصا، ونتيجة ذلك هي ممارسة شركات الطيران نموذجها المحبب بالرحلات متعددة المراحل، ويتضمن سفر الركاب بغزارة من وجهة الى أخرى، قبل انتشارهم بتدفقات أصغر الى وجهتهم النهائية، ومن أجل تطبيق هذا النموذج طلبت الشركات طائرات ذات البدن العريض مثل بوينغ 747 لملئها بنحو 500 مسافر، لكن هذه الطائرات استهلكت كميات كبيرة من الوقود وأحرقت الشركات المزيد منه بنقل مسافريها من محطات الى مطارات أصغر، لكن تكاليف الوقود كانت واطئة جدا وبالتالي لم يكن الأمر مهما.
بدءا من التسعينيات ومطلع القرن الحالي ارتفع الوقود باستمرار، ما أجبر شركات الطيران على اعادة تجريب اسرافها بالوقود، وكان سعر برميل النفط عام 1989 يكلف 10 دولارات، لكنه بلغ 147 دولارا عام 2008، وراقبت شركات الطيران هبوط أعداد مسافريها بعد تفجيرات 11 أيلول رغم تسديدها ثمن الطائرات التي طلبتها قبل سنوات.
من جهة ثانية، تعد أسعار التذاكر الواطئة جزءا محوريا لوهم عززه قطاع الطيران طيلة السنوات العشرين الماضية، والوهم هو أن النقود التي ندفعها مقابل التذكرة تغطي تكلفة نقلنا جوا، اضافة الى التكلفة المنتزعة من البيئة، والسخرية أن اعلان شركة “كي إل أم” العام الماضي كان عنوانه “حلّق بمسؤولية” جاء بعد سنوات من حث الشركات للمسافرين على السفر من دون تحمل مسؤولية.
 
طائرات جاثمة
جثم ثلاثة أرباع أسطول كي إل أم بنهاية نيسان الماضي في قلب أزمة الطيران، وبدلا من نقلها الى مقبرة الطائرات قررت الشركة ابقاءها جميعا بمطار أمستردام الدولي، أي سحبها الى بوابات المغادرة أو صفها جنبا الى جنب بنمط متعرج على أحد المدارج بعد إلقاء الصفائح الفولاذية، حتى لا يتسبب الوزن الكلي للطائرة بتضرر إسفلت المدرج، ويعد تخزين الطائرات مسألة مسلية ومعقدة، كما إن القول السائد “الزمن رأس مال” صحيح جدا بالطيران، ولذلك يجب ابقاء الطائرات المخزّنة للأمد البعيد صالحة للطيران الى أقصى درجة ممكنة واسترداد تكاليفها المرتفعة.
شرح تون دورتمانس مدير الهندسة والصيانة بالشركة كل ذلك في مكالمة فيديوية وما يتوجب على موظفيه فعله، للحفاظ على الطائرات خلال الربيع والصيف الماضيين. ويقول إن خزانات الوقود أفرغت، لكن ليس كليا لأن هناك حاجة لبعض الوزن في الطائرة بمواجهة الرياح العاصفة هناك، وللسبب نفسه ربطت شفرات المحرك بأحزمة منعا لدورانها الى ما لا نهاية وتآكل أجزائها، وأفرغت خزانات الماء ووضع المهندسون أغطية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد على فتحات صغيرة بسطح الطائرة، تخفي المستشعرات التي تقيس ضغط الجو والارتفاع، وتحميها الأغطية من الرطوبة والحشرات.
أما بالنسبة للطيارين فلا يمكن خزنهم بالطريقة نفسها، ويعمل لدى كي إل أم ثلاثة آلاف طيار ويجب على كل منهم التحليق حد أدنى من الساعات وأداء ثلاث عمليات اقلاع وثلاث عمليات هبوط كل 90 يوما للسماح له بمزاولة المهنة، وقررت الشركة الهولندية لعلاج المشكلة أن يرافق الطيارين عند استئناف الرحلات مدرب طيران ذو خبرة.
يتوالى الغاء الرحلات وهبط عدد المسافرين بنسبة 95 بالمئة لدى كي إل أم التي وضعت 800 من موظفيها بواجبات خدمة الزبائن المؤقتة ويؤدونها من منازلهم لتسجيل شكاوى وإصدار فواتير.
حققت الشركة خسائر قياسية بلغت 800 مليون يورو في النصف الأول من العام الحالي، وتلقت معونة من الدولة الهولندية مليار يورو قروض مباشرة و2،4 مليار يورو قروض مصرفية تضمنها الحكومة مصحوبة بشروط صارمة، مثل خفض التكاليف والايفاء بمتطلبات بيئية جديدة واعادة هيكلة الشركة. 
أعلنت مجموعة كي إل أم بنهاية الصيف الغاء 4500 الى 5000 وظيفة من مجموعة 33 ألف موظف لديها، وتكرر هذا السيناريو بعموم شركات الطيران. فشركة أميركان أيرلاينز تخطط لإلغاء 40 ألف وظيفة وشركة بريتش أيرويز 12 ألف وظيفة وشركة كانتاس الأسترالية ستة آلاف وظيفة، ويفوق مجموع خسائر القطاع 84 مليار دولار هذا العام.
 
التأثير البيئي
لا يوجد حساب شامل لعدد الأطنان من انبعاثات الطيران التي محاها الفيروس، لأنه لا يزال مستمرا، ولا تزال طائرات كثيرة جاثمة، وجد أحد التحليلات أن إلغاء مليون رحلة في آذار أزال ما يعادل شهر من انبعاثات بريطانيا لثاني أوكسيد الكاربون.
يقول بروفيسور الطاقة أندرياس شيفر أن انبعاثات الطيران بين عامي 1980 و2015 زادت بنسبة أكثر من اثنين بالمئة سنويا، وهذا ليس مفاجئا بسبب تعزيزات كفاءة استخدام الوقود رغم زيادة عدد المسافرين، اذ ارتفع الطلب السنوي على النقل الجوي بأكثر من 5 بالمئة.
يضيف شيفر أن الأمر لا يقتصر على شركات الطيران، ولكن مصنعي الطائرات يشعرون بالقلق أيضا من قضية ثاني أوكسيد الكاربون. وفي العام 2013 حددت منظمة الطيران المدني الدولية التابعة للأمم المتحدة متطلبات جديدة لكفاءة الوقود وانبعاثات الكاربون، وتبنت المنظمة بعد ثلاث سنوات خطة تقليص وتعويض الكاربون للطيران الدولي، وتهدف لتقليص انبعاثات الطيران العالمي الى نصف مستويات عام 2005، وتعهدت شركات الطيران أيضا بشراء تعويضات الكاربون مقابل أي نمو مفرط بالانبعاثات بعد 2020.
المشكلة هي أن التقنيات التي قد تقودنا الى عصر الرحلات النظيفة غير موجودة حتى الآن، وحجم الوقود الحيوي والبدائل الأخرى المصنعة صغير للغاية، وتوقع فريق باحثين خلال العام 2017 أن كل انتاج العالم سيبقي الطائرات بالجو لما مجموعه 10 دقائق فقط، ويشعر خبراء البيئة بالقلق من أن الوقود البيئي المصنوع من منتجات مثل زيت النخيل سيحدث ضررا أكبر من نفعه.