«كيو آنون» وانتشارها العنيد خارج الولايات المتحدة

بانوراما 2020/10/31
...

باتريك بوث، ماري غروس، وآخرون   
ترجمة: مي اسماعيل
باتت طائفة «كيو آنون» (Anon) الغريبة المؤيدة للرئيس الأميركي دونالد ترامب تكتسب مزيدا من الاتباع خارج الولايات المتحدة منذ شهور، وأصبحت اليوم تنتشر في ألمانيا، ويؤمن اتباعها أن فيروس كورونا هو سلاح النخبة في مسعاها لاستعباد العالم. يصعب اجراء اللقاءات الصحفية مع اتباع الطائفة بالمناطق الريفية جنوب المانيا؛ فهم ينظرون للصحفيين كأفراد من النخبة، التي تغطي المؤامرة العالمية لقهر الانسانية. قال أحدهم (في لقاء منشور باسم مستعار- مارتن شميدت): «تهدف النخبة للبقاء في موقع السلطة والثراء لكي تستعبد العالم». 
يقول شميدت (27 سنة، عامل كهربائي) انه يفكر منذ زمن بعيد بالاحداث العالمية، مثل اغتيال جون كينيدي، وهجمات 11 أيلول، ووباء كورونا؛ وهو يؤم بأنها أمور جرت فبركتها كجزء من خطة كبيرة، ويشاركه والده الاعتقاد أن الناس يتعرضون للخداع بشكل ممهنج من قبل السياسيين والاعلاميين. يمضي شميدت قائلا: «يعمل أفراد تلك النخبة(رجالا ونساء) في منطقة «وول ستريت»، حيث تنتمي 
البنوك». 
وأن كبار رجال الاعمال (منهم جورج سوروس، وبيل غيتس، ومارك زوكربيرغ، وأسرتي «روكفيللر» و«روتشيلد» فاحشة الثراء) ينتمون لتلك النخبة. وأن قادة المجتمع انحدروا اخلاقيا؛ ولذلك لا يخشى النخبويون قتل الناس. شميدت هو واحد من عشرات الآلاف من أتباع «كيو آنون» في ألمانيا ومن المتعاطفين معها. ويؤمن أصحاب نظرية المؤامرة اليمينية تلك أن مجموعة متنفذة من الشيطانيين المتحرشين بالأطفال يقومون باختطاف الفتيان والفتيات ويستخدمون دماءهم لانتاج عقاقير، وأن فيروس كورونا جرى تطويره في مختبر بالصين (ربما بمساعدة الرئيس السابق باراك اوباما) لمقارعة دونالد ترامب ومنع إعادة انتخابه؛ وهو إدعاء سخيف بقدر ما هو زائف. كما يؤمنون أن ترامب بطل يقاتل ضد «الدولة العميقة» بسبب رغبته بحماية العالم من المجاميع الشيطانية. يمضي شميدت قائلا: «إنه يحاول انقاذ الانسانية، وسوف يسلب سلطة النخبة». 
 
فلك «كيو آنون»
قد يمكن اعتبار «كيو آنون»  نوعا من الهوس الجنوني؛ كما هو حال الإدعاء بأن الهبوط على القمر كان مفبركا أو أن الحكومة الاميركية خططت لهجمات 11 أيلول؛ لكن ما يميز هذه الحركة ويزيد من خطورتها هو فكرها. ينشر اتباع «كيو آنون» افكارا متشابهة بشكل مقلق: مؤامرة مفترضة تقودها النخبة الثرية(منهم العديد من رجال الاعمال اليهود) تستهدف العالم، ومجموعة مفترضة من السياسيين اليساريين الفاسدين تخترق الديمقراطيات، وصحفيون ينشرون الدعاية كشركاء مع الاقوياء. انتشرت تلك الافكار، القديمة قدم القرون، من جيب اليمين المتطرف المعادي للسامية في المجال الدولي العام عبر وسائل إعلام القرن الحادي والعشرين. تقول «جوليا ايبنر» (باحثة بشؤون المتطرفين في معهد الفكر للحوار الستراتيجي ومقره لندن): «ليس من المبالغة اعتبار «كيو آنون» خطرا محتملا على الأمن القومي»، إذ درست ايبنر لسنوات وسائل التجنيد الراديكالي عبر الانترنت، وهي تراقب بقلق تحول جماعة «كيو آنون» الألمانية نحو مزيد من الاستقلالية والتوجه لتجنيد أتباع جدد. بالفعل يمكن القول إن هذه الجماعة في طريق التحول الى أخطر طائفة عالميا؛ وأنها أول أيديولوجية تأتي من العالم الرقمي وتخرج من مكانة فضاء الإنترنت إلى الحياة الواقعية، بمساعدة مؤيدي دونالد ترامب والديماغوجيين اليمينيين. يغذي شخص واحد أو عدة مستخدمين مجهولين مواقع هذه الجماعة، إذ ينشرون بانتظام على الويب ويزعمون إمكانية الوصول إلى وثائق حكومية أميركية شديدة السرية؛ وهو إدعاء مشكوك فيه.
كذلك يتضح ميل الحركة للعنف؛ ففي آذار 2019 اطلق أحد اتباعها النار على زعيم مافيا مفترض في نيويورك لاعتقاده أنه أحد أفراد «الدولة العميقة». واعتقلت الشرطة الاميركية امرأة هددت هيلاري كلينتون على موقع فيس بوك بدعوى امتهان طفل، وأرسل رجل من فلوريدا تهديدا بالتفجير لاعضاء بارزين في الحزب الديمقراطي بدعوى الانتماء للدولة العميقة، كما ألمح مسلح في مدينة هاناو وسط ألمانيا (والذي قتل عشرة اشخاص ثم انتحر خلال شهر شباط الماضي) الى مواضيع تدور في فلك جماعة «كيو آنون»، وإدعى (على فيديو ظهر بموقع يو تيوب) وجود مواقع عسكرية سرية تحت الارض في اميركا، يجري فيها تعذيب وقتل الاطفال وعبادة الشيطان. ولعب اتباع الحركة دورا باقتحام مبنى الرايخستاغ (البرلمان الالماني) أواخر آب الماضي من محتجين على معالجة السلطات لأزمة كورونا. وجرى تعريف «تمارا كيرشباوم» (التي دعت الناس الى صعود سلالم المبنى إلى المدخل) على الإنترنت بأنها «مشاركة مستقلة» في  «Qlobal -Change»؛ وهي بوابة لأتباع «كيو آنون». تصف كيرشباوم نفسها بـأنها «الصوت» لعروض «X22 Report»  على يوتيوب عن مواضيع تتعلق بجماعة «كيو آنون» ومترجمة للألمانية. ويصنفها مكتب حماية الدستور (وكالة المخابرات الألمانية المحلية في ولاية شمال الراين وستفاليا- غرب ألمانيا) بأنها عضو في مجموعة Reichsbürger (أو «مواطني الرايخ») التي لا تؤمن بشرعية الدولة الألمانية الحديثة. 
 
«قطرات» و«فتات»
لعبت شركات التكنولوجيا الاميركية الكبيرة دورا حاسما بانتشار هذه الايديولوجية؛ إذ لم يكن بامكانها الوصول بهذه السرعة والانتشار، لولا مواقع يوتيوب وفيس بوك وتويتر وغيرها من مواقع التواصل الاجتماعي. وانتشرت الايديولوجية بسرعة مضاعفة منذ الاغلاق الاول بسبب الجائحة خلال شباط الماضي؛ خاصة في ألمانيا؛ فكانت «كيو آنون» أشبه بفيروس آخر ينتشر حول العالم؛ لكنه هنا من صنع الانسان بالتأكيد، ليس من قبيل المصادفة أن فريق حملة ترامب الانتخابية قد اعترف بمريدي «كيو آنون» كجزء مهم من قاعدته وبات يحابيهم. وبالفعل أعلن العديد من المرشحين الديمقراطيين للكونغرس انتماءهم للحركة. تشبه أيديولوجية هذه الجماعة التي ظهرت لأول مرة خلال بدايات القرن الحادي والعشرين، مزيجا من ألعاب الفيديو والبحث عن الكنوز عبر الإنترنت. وظهرت على منصة هدامة إلى حد ما، تخاطب الشباب إلى حد كبير: «chan 4» وهي منتدى ويب بسيط تأسس في العام 2003 على يد مبرمج عمره 15 عاما من نيويورك. هذا المنتدى عبارة عن لوح اعلان عملاق ليست له رؤية، يمكن لأي شخص الكتابة فيه ونشر أي شيء يريده من دون الكشف عن هويته. لا توجد سوى مواضيع قليلة غير مسموح بها؛ عادة ما يجري حذفها، وتشمل عروضه المواد الإباحية الفاضحة والخطاب اليميني المتطرف الذي لا طعم له، أو الأسلوب المهين. أتاحت المنصة العنكبوتية ولادة افكار جيدة واخرى مثيرة للاشمئزاز، والتي يجري التعليق عليها ومناقشتها؛ قبل أن تطغي عليها افكار ومنشورات اخرى.  يعاني الداخلون الى المنصة للمرة الاولى كثيرا قبل فهم مئات من مجموعات النقاش والصور الكارتونية والنكات الداخلية، والتحرك بينها. هناك مئات الآلاف من المشاركات اليومية، ونحو 27 مليون زائر شهريا. من كل ذلك ظهرت لغة متفردة من دون أية رقابة تقريبا، وهي مثل النكات؛ غير مفهومة للغرباء. حتى الآن هناك نحو ثلاثة مليارات ونصف مليار مشاركة؛ ويربط بين المستخدمين الايمان بأنهم جزء من أحد آخر معاقل حرية التعبير والرأي. تسمى المشاركات بكلمة «قطرات»؛ وتشمل ما يسميه المستخدمون «فتات الخبز»؛ التي يجب عليهم تتبعها والتحقق منها وصولا الى الهدف؛ وهو امر غير قابل للتحقيق عند نهاية المطاف. هذا «الفتات» يشبه البذور التي تنمو منها قصص عن مؤامرات النخبة (بشكل ذاتي تقريبا)؛ وهنا تسأل الحركة اتباعها أن يقوموا بأبحاثهم الخاصة اذا لم يصدقوا الاعلام، ليتحول أصحاب نظريات المؤامرة الى محققين. يرى «تيموثي ميللي» الباحث في نظريات المؤامرة أن الرغبة في أن يكونوا جزءا من آلية كشف الحقائق هي التي تعزز استمراريتهم؛ وحتى اذا عجزوا عن اثبات شيء ما، سيستمرون بالبحث عن المزيد من «الفتات».  
 
صناعة المبشرين بالهلاك
هذه الطبيعة «التشاركية» للأيديولوجيا هي التي جعلتها «جذابة»، ويرى ميللي أن الحركة تربط بين نظريتي مؤامرة كبيرتين: الايمان أن «المستنيرين- Illuminati» ) أو غيرهم) يديرون العالم، وأن هناك «دولة عميقة» داخل الحكومة تسيطر سرا على حياة الناس.. ويمضي قائلا: «يمكن القول أساسا إن نظريات المؤامرة طريقة لتفسير هيكلية القوة بطريقة مُطمئِنة؛ إذ تُحوّل السياقات الاجتماعية المعقدة الى مؤامرات». لكن الدخول من زاوية غامضة للإنترنت لا يكفي لبدء حركة (فكرية)؛ وإن نظرية المؤامرة تحتاج الى أرض خصبة لتنمو، كما تحتاج لقادة مروجين! حتى اليوم لا يعرف أحد على وجه التحديد من يقف وراء «كيو آنون»؛ ويقول بعض المتابعين أنه ترامب بذاته، بينما يدعي آخرون أنه جون كينيدي الابن (رغم أنه مات منذ سنة 1999)! لكن قبر والده يشبه (الى حد ما) حرف كيو «Q» عملاق عند التصوير الجوي. 
على نحو سريع، نمت حول «كيو آنون» صناعة المبشرين بالهلاك والمتلاعبين بأزرار الحواسيب ودعاة اليمين المتطرف؛ واستقطبوا سريعا اهتمام مئات الآلاف من المتابعين. وهؤلاء بدورهم يقضون أيامهم بمقارنة الإسنادات المرجعية وجمع القرائن والبحث عن أدلة على مؤامرة مفترضة، وهناك من يعتاش على كل ذلك، يصف البعض أحيانا هذا الهوس بعالم الانترنت بأنه أشبه بالسقوط في جحر عميق؛ ولكن كيف يحدث ذلك، ولماذا لا يتمكن البعض من الخروج ثانية؟ يكمن جزء من الجواب بخوارزميات الاقتراح في شبكات التواصل الاجتماعي؛ فموقع يوتيوب مثلا يعتبر كفوءا بالذات لربط المستخدمين الى شاشاتهم وعرض مواضيع تستهويهم، وليست هي لوحدها؛ بل مواضع مشابهة اخرىن وهذا لا يستهوي مجانين التكنولوجيا فقط؛ وإنما يستهوي منتجي الافلام والمؤثرين ومروجي الاعلانات ومدراء المحتوى، وحين يذهب المستخدِم للمنصة بحثا عن جواب لسؤاله؛ يفتح له الموقع عالما جديدا. ويعتمد مدى تصميم هذا العالم خصيصا لمستخدِم معين على العديد من العوامل، وسيُعطى من يكشفون عما يفضلونه وما يريدون، ثم يتم استدراجهم الى الموقع. 
تعمل آلية اقتراح الموضوعات على الانتقال من موقع الى آخر؛ مثلما تعمل مواقع الموسيقى التي تقود المعجبين من فيديو موسيقي الى آخر. وليس على متابعي فيديوات «كيو آنون» الألمانية سوى ضغط زر القبول لكي يشاهدوا مقاطع عن «مافيا كورونا» أو «وهم كورونا»، أو الترويج للمخاطر المفترضة للقاح. وبذا يجري سحب المشاهد اعمق فأعمق الى الجحر، وهكذا تنمو الحركة مع كل ضغطة زر؛ وهذا ما لاحظه بعض السياسيين. بدأت شركات التكنولوجيا تفهم ما ساهمت هي ذاتها ببنائه؛ ففي تموز الماضي حظر موقع تيك توك عدة روابط (هاشتاك #) للحركة، كما ألغى فيس بوك مؤخرا نحو 800 مجموعة حوار، في أحدها نحو عشرين ألف مستخدم، وتمت عرقلة الآف الحسابات على انستغرام، بعدما علّق موقع تويتر أكثر من سبعة آلاف حساب مشابه.