{رؤية} الرواية

ثقافة 2019/01/14
...

عبد علي حسن
 
 
الرؤية رؤيتان، الأولى حقيقيَّة وآلتها البصر، والثانية مجازيَّة تعني وجهة النظر، ومنه الرأي، وهما مشتقتان من الفعل (رأى)، وهي غير (الرؤيا) التي تعني الرؤية في النوم، وهناك عديد من الكتاب يخلطون بين المفردتين (رؤية) و(رؤيا) مستخدماً إحداهما مكان الأخرى، وقد وردتا في القرآن الكريم بالمعنيين اللذين أشرت لهما آنفاً، وما يعنينا في هذا المقام هو (الرؤية)
 

بالمعنى المجازي وهو وجهة النظر، الذي كان حجر الزاوية في نظرية هنري جيمس في الرواية، إذ شدد على ضرورة تضمين الرواية وجهة نظر معينة في القضايا التي تهم الإنسان ومواقفه الحياتيَّة، وأضاف في ما بعد تودوروف مصطلح (الرؤية) لتحل محل مصطلح (وجهة النظر) وغالباً ما يتم طرح رؤية رواية ما من خلال تصرف أو كلام لشخصية من شخصيات الرواية، ولعلَّ وجهة النظر هذه تشكل رؤية الكاتب عبر الشخصيات لتكون الفكرة التي تقوم عليها الرواية مثلها مثل بيت القصيد في القصيدة الشعريَّة الكلاسيكيَّة، إذ تشكل الأحداث ومواقف الشخصيات الحافة بوجهة النظر تلك، المجال الروائي الذي يتأثر بالشخصيَّة المركزيَّة الباثة لوجهة نظر الرواية.
 
تجاوز الذات الى الموضوع
ففي الروايات العالميَّة التي حازت على مقبوليَّة وأثر في المتلقي هي الروايات المتمتعة برؤية فلسفيَّة أو اجتماعيَّة وغيرها وتكتسب صفة إنسانيَّة شموليَّة غير متمركزة حول ذاتها، بمعنى آخر إنَّ الرواية المتحققة البناء والمضمون المحلي تتجاوز الذات الى الموضوع لتكون تلك الرؤية التي تطرحها هي رؤية شموليَّة ينسجم معها ويتأثر بها المتلقي في أي مكان وزمان، أي إنَّ الرؤية المؤثرة هي رؤية عابرة للمواقف الآنية والخاصة الى ما هو آني ومستقبلي وشامل يتعلق بالصيرورة الإنسانيَّة، ففي رواية (الشيخ والبحر) ذائعة الصيت يطرح همنغواي رؤية الرواية عبر إصرار الإنسان للتفوق على ذاته وقدراته التي يعتقدها محدودة وغير قادر على قهرها وتجاوزها، فهذه الرؤية استخلصتها الرواية عبر حدث محلي حصل للصياد العجوز في أحد الموانئ، فالتفاصيل المحليَّة لم تكن من الأهمية بمكان مثلما احتل موقف الصياد العجوز في صراعه مع القرش الذي بدأ بنهش السمكة التي اصطادها من دون أنْ يستسلم على الرغم من اعتقاده ومعرفته بلا تكافؤ الصراع بينه وبين القرش، إلا أنه أراد أنْ يثبت لنفسه قدرته على الوصول الى الشاطئ بما تبقى من السمكة، وهنا كرس همنغواي رؤية الرواية في تأكيده على قدرة الإنسان على ممارسة أقصى قدراته الداخليَّة التي تمكنه من التفوق على ذاته، وفي رواية (قواعد العشق الأربعون) للروائية التركية أليف شافاق فقد استثمرت موجهات العشق الصوفي عبر علاقة شمس التبريزي مع جلال الدين الرومي في إعادة صياغة حياة الشخصية المركزية باتجاه
 اكتسابها حق تقرير مصير حياتها من خلال التمرد على سكونية وسلبية حياة المرأة الواقعة تحت ضغط إكراهات المجتمع الذكوري ومنبهة الى ضرورة تجاوز سلبيات حياتها والقبول بالاستسلام الى تفاصيل حياتها الزوجيَّة والعائليَّة
 المملَّة.
وكذا الأمر بالنسبة للروايات التي تمكنت من تحقيق حضور عالمي مؤثر كرَّس رؤية ما عُدَّت بمثابة رسالة المنجز الأدبي التي ينبغي حضورها الفاعل والمؤثر في مرجعيَّة المتلقي المعرفيَّة والجماليَّة، وبهذا الصدد لا يمكن تجاهل الرؤية الفلسفيَّة لرواية ما بعد الحرب العالمية الثانية التي كرَّست الخواء الإنساني والانتهاكات التي تعرض إليها الإنسان في الحروب، وقد تمظهر ذلك في روايات سارتر وكامو وبيكت، ولعلَّ تلك الرؤى هي ما جعلتها تحوز على العالميَّة وحيازتها على موقع متقدم في الفكر
 الإنساني.
كما تمكنت الرواية العربيَّة من طرح رؤيتها وفق تفاعل منتج مع مجريات الواقع العربي سياسياً واجتماعياً، وبهذا الصدد نشير الى روايات جرجي زيدان التاريخيَّة التي كانت تحاول بث روح اليقينيَّة بالتراث البطولي للعرب والرؤى الاجتماعيَّة التي طرحتها روايات نجيب محفوظ والموقف من الاستعمار كما طرحتها روايات عربيَّة لعلَّ أهمها
 (موسم الهجرة الى الشمال) للروائي السوداني الطيب صالح وغيرها من الروايات التي تضمنت رؤية إنسانيَّة عابرة للتفاصيل المحليَّة ومنطلقة منها، وفي ما يختص بالرواية العراقيَّة التي يرجع تأسيسها وتشكلها الفني الى ستينيات القرن الماضي وتحديداً عند صدور رواية (النخلة والجيران) للروائي غائب طعمة فرمان، فإنَّ عدداً قليلاً من الروايات العراقية قد تمكنت من امتلاكها رؤية واضحة وفق المعياريَّة التي أشرنا إليها آنفاً، إذ تمكن على سبيل المثال لا الحصر كل من الروائيين غائب طعمة فرمان وعبد الخالق الركابي وأحمد خلف وعبد الرحمن مجيد الربيعي وجمعة اللامي ولطفية الدليمي من الاهتمام بطرح رؤية ما عبر رواياتهم
 المختلفة الاتجاه.
 
رؤية جديدة
منذ التحول البنيوي للمجتمع العراقي في 2003 وحتى الآن فقد صدرت المئات من الروايات العراقيَّة، إلا أنَّ عدداً قليلاً قد امتلك قدرة الإتيان برؤية جديدة تمنح الرواية نبضها الجديد، ومن الممكن الإشارة الى بعض الأسماء الروائيَّة التي اهتمت بغائيَّة الكتابة الروائيَّة وهي وجود الرؤية كرسالة يتوجه بها الى المتلقي، مثل الروائي حميد الربيعي وخضير فليح الزيدي ومحمد علوان جبر وجابر خليفة جابر وإنعام كجه جي ومرتضى كزار وأحمد سعداوي وسنان انطوان وسعد محمد رحيم وجاسم عاصي وعلي لفته سعيد وسواهم من الروائيين الذين حققت رواياتهم حضوراً ثقافياً واجتماعياً في المشهد الثقافي العراقي، إذ استطاعت هذه الروايات اعتبار الأحداث والشخصيات ذريعة لطرح رؤاها وفق بنائيَّة تأخذ بنظر الاعتبار ما تمَّ التوصل إليه من آليات سرديَّة حديثة، في حين ظلّ
َ عددٌ كبيرٌ من الروايات الصادرة منذ 2003 مندهشاً ومنفعلاً إزاء ما يجري في الواقع العراقي ومأخوذاً بفكرة الكشف عن الواقع اليومي للمتلقي العراقي الذي هو إحدى الشخصيات المكونة لهذا المشهد، واضعاً تلك الأحداث والشخصيات هي الأساس والهدف المركزي في عملية الروي فانشغل بها عن التفكير بإمكانيَّة
 تخليق الرؤية.