الترامبيَّة باقية رغم هزيمة ترامب

بانوراما 2020/11/23
...

  جيوفري كاباسيرفايس   
  ترجمة: مي اسماعيل
حلت نهاية الاستعراض، وسيرحل دونالد ترامب قريباً عن البيت الأبيض؛ رغم أن هذا لا يعني غيابه عن نشرات الأخبار أو اللاوعي الجماعي لدينا. ولكن هل ستستمر “الترامبية” أطول من حضور ترامب؟، واذا كان الامر كذلك كيف سيكون تأثير “ترامبية” ما بعد 2020 في الحركة المحافظة والحزب الجمهوري؟. 
رغم أن ترامب كافح غالبا للتعبير عن فلسفته (اذا كان بالامكان تسميتها فلسفة)؛ فإنّ حملته الانتخابية لعام 2016 انطلقت من عدة مفاهيم أساسية؛ كان من أهمها أنه منذ بدء الحقبة الليبرالية الجديدة في الثمانينات أصبحت أميركا أمّتين تقسمهما الجغرافيا والطبقية. ونما الشرخ (كما هو الحال في غالبية الدول المتقدمة) بين العاملين في القطاعات المعرفية (= الذين تكون مادة تعاملهم الاساسية هي المعارف؛ مثل الأطباء والصيادلة والمهندسين والمخططين والمبرمجين... المترجمة) المتواجدين عادة في المناطق الحضرية المزدهرة والمتقدمة اجتماعيًا التي شكلت محاور الاقتصاد العالمي الجديد، وبين المحافظين ممن لم يحصلوا على التعليم الجامعي، القاطنين في المناطق الريفية ومدن ما بعد الصناعة. وبينما تعافت المناطق “الزرقاء” سريعا بعد الأزمة الاقتصادية سنوات 2007-2008؛ تحول الوضع بالنسبة للولايات والمناطق “الحمراء” المتخلفة عن الركب من كئيب إلى رهيب. وتجاهل الإعلام وإدارة أوباما غالبا البطالة واليأس والتفكك الأسري و”أموات اليأس” التي سادت تلك المناطق. 
وحده ترامب (من بين مرشحي انتخابات سنة 2016 الجمهوريين) لاحظ أن الحزب بات يمثل أصوات (وليس مصالح) الطبقة العاملة البيضاء. وهزم منافسيه لأنّه أعار اهتماما أكثر لمشاكل القاعدة؛ إذ قدم تفسيرات لا أساس لها (ولكنها مُقنعة عاطفيا) لمحنتهم، ولعب على أوتار استيائهم الثقافي والعرقي، ورفض الحلول البالية لحقبة ريغان التي روج لها باقي المرشحين. ثم مضى قدما ليهزم المرشحة الديمقراطية (غير الشعبية تاريخيا) هيلاري كلنتون بأقل فارق ممكن من أصوات المجمع الانتخابي؛ في حين خسر الانتخابات العمومية بفارق نحو ثلاثة ملايين صوت.
 
وعود.. ووعود
حينما دخل ترامب البيت الأبيض في التاسع من كانون الثاني سنة 2017 كان من المعقول أنه قد يضع لحم السياسة على عظام التوليف القومي الشعبوي الذي حدده في حملته؛ فهو رغم كل شيء، دعا خلال أسبوعه الأول بالسلطة قادة نقابات عمال البناء والتشييد الرئيسة الى البيت الابيض ليناقش انفاق مئات مليارات الدولارات لإعادة بناء البنى التحتية الوطنية؛ التي لاحظ (محقا) في خطاب تنصيبه أنها.. “سقطت في الإهمال والانحلال”. ربما يكون ترامب قد حشد الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون لتمرير برنامج البنية التحتية، مع الاجازة الأسرية مدفوعة الأجر وبرامج رعاية الاطفال ميسورة الكلفة، بالتعاون مع ابنته ايفانكا. وقد يكون نادى بالاصلاح الضريبي لتقليل الحد من عدم المساواة في الدخل؛ بجعل مديري صناديق الاحتياط والقطط المالية البدينة الأخرى يدفعون نصيبهم العادل؛ كما تعهد في وقت مبكر من حملته. وقد يكون شجع برامج التدريب والتلمذة الصناعية للمهن الماهرة، أو أنجز سياسة صناعية لتحقيق الاستقلال الاقتصادي عن الصين، أو تبنى أي عدد من الأفكار الجمهورية الأخرى الهادفة لتقوية الطبقة العاملة المحاصرة. لكن ترامب بالطبع لم يقم بأي من تلك الاشياء؛ فبصفته محاربًا ثقافيًا استغل شهية قاعدته للانقسام الاجتماعي والعداء العرقي ونظريات المؤامرة الخبيثة؛ لكنه حكم في المجال الاقتصادي إلى حد كبير لصالح الطبقة المانحة للحزب الجمهوري. أما موضوع خفض الضرائب لسنة 2017؛ الذي كان أهم إنجازاته التشريعية (والوحيد تقريباً)، فقد قدم الغالبية العظمى من فوائده إلى الأكثر ثراءً؛ بل ذهب الى حد المحافظة على ثغرة ضريبة الفوائد المحمولة؛ وهي منحة وول ستريت التي تعهد ترامب مرارًا بإلغائها. وعد ترامب بتوفير نظام رعاية طبية ميسورة الكلفة وأكثر شمولا؛ لكنه تماشى مع محاولة الكونغرس الجمهوري (التي نجحت بتصويت واحد) بإلغاء مشروع “أوباما كير” (للرعاية الصحية. المترجمة) ولم يستبدله بخيار آخر.  
كان شعار ترامب الانتخابي لسنة 2016 “لنجعل اميركا عظيمة ثانية” سلاحا قويا موجها الى وضع راهن غير منصف تشكل بدعم من كلا الحزبين؛ ولكن بحلول خريف سنة 2020 وأمام عدم قدرة ادارة ترامب لاحتواء وباء كورونا أو الضرر الاقتصادي الناتج عنه، مقترنا بفشله خلال السنوات الاربع الماضية في تنفيذ أي شيء مشابه لبرنامج شعبوي؛ كان ذلك يعني صعوبة دخوله المنافسة الانتخابية ببرنامج من “الترامبية”؛ وعلى الاقل كما عرّفه هو بنفسه سنة 2016. وكل ما كان باستطاعته تقديمه هو شخصيته؛ التي تروق عموما للنواة الصلبة من أنصاره. 
 
إعادة توزيع الرفاهية
عند التحليل النهائي أثبت ترامب أنه يمثل استمرارية للتيار الجمهوري المحافظ أكثر من كونه بديلًا عنه؛ على الاقل كما تم تعريفه منذ حقبة “نيوت جينجريتش “ (Newt Gingrich)‏؛ (17 يونيو 1943 -) سياسي ومؤلف ومعلم تاريخ أميركي، شغل منصب رئيس مجلس النواب الأميركي للدورة 58، خلال سنوات 1995-1999 -. رؤيته للعالم قريبة جدا من نظرة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو- المترجمة)) خلال الثمانينيات والتسعينيات. وعد ترامب بتصفية المستنقع؛ لكنه استدار عائدا الى المستنقع، واتخذ الدافع المحافظ المناوئ للحكومة وقدم حكومة قاسية فاسدة وغير كفوءة، وأعاد توزيع الرفاهية باتجاه متصاعد وترك الطبقة العاملة بحالة سيئة. سيكون إرثه الأطول بقاء، تعيين ثلاث قضاة في المحكمة العليا خلال فترة رئاسته؛ لكن من غير المرجح استفادة الطبقة العاملة من (أو حتى الموافقة على) قرارات مهمة تتخذها تلك الاغلبية المحافظة الجديدة. ورغم ان المحكمة قد تنقض قرار إباحة الاجهاض (على سبيل المثال) فإن مثل هذا القرار قد يُبعِد نحو 45 بالمئة من ناخبي ترامب الذين صوتوا له سنة 2016؛ وغالبيتهم من ذوي الياقات الزرقاء غير الإنجيليين، الذين إما يميلون إلى حق الاختيار أو لديهم آراء مختلطة عن الإجهاض. مع ذلك من غير المرجح عودة النمط المحافظ في وقت قريب الى الوضع الراهن قبل ترامب، ورغم فشله في المنصب سيقول المخلصون لترامب (كما قال المعتذرون المدافعون الشيوعيون عن الأمس): إن “الترامبية” لم تنجح لأنه لم يتم تجربتها فعليا أبدا.. فهل هم على حق؟ وهل يمكن أن تنجح “ترامبية” يُعاد توجيهها خلال سنوات ما بعد 2024، إذ فشل ترامب ذاته؟ 
 
روتين هزلي أجوف
سيحاول أغلب خلفاء ترامب تقليد خطه المتفرد في روح الاستعراض والتفاخر والكوميديا المهينة؛ لكنهم سيفشلون لا محالة. لكن ترامب لم يكن مخطئا في النظر الى الصين كمنافس وتهديد؛ حتى وأن أثبتت استجاباته المتعلقة بالتجارة والتعريفات عدم فعاليتها إلى حد كبير. ومضى وعد ترامب بتقديم بديل لخطة أوباما للرعاية الصحية “أوباماكير” دون تحقيق؛ لكنه ابتعد عن العقيدة المحافظة بالامتناع عن التخفيضات في برامج الضمان الاجتماعي والرعاية الطبية والصحية التي تعتمد عليها الطبقة العاملة كثيرا. أثبتت مناورات ترامب وروتينه الهزلي المعادي للمؤسسة أنها جوفاء؛ لكنه استغل الغضب المشروع ضد الطرق التي سمح بها كلا الحزبين للنخب والمصالح الخاصة بالاستحواذ على اجزاء كبيرة من الاقتصاد عبر المراوغات الضريبية والاتفاقات الخارجة عن سياق المنافسة والفساد الصريح. بعبارة أخرى- فإن لائحة الاتهام الترامبية للوضع الراهن تتوافق مع الواقع ولا يمكن رفضها بوصفها مجرد ديماغوجية. 
سيلعب المرشح الجمهوري في انتخابات سنة 2024 (المستفيد من منظور الترامبية) لا محالة على مخاوف الطبقة العاملة أن أجورهم ستنخفض بفعل وجود المهاجرين غير المهرة؛ لكن مثل ذلك المرشح قد يتبرأ في ذات الوقت من عنصرية، اعترافا بأن الطبقة العاملة متعددة الأعراق وأن الحزب الجمهوري يجب أن يصل لمن هم أبعد من الاميركيين البيض غير الحاصلين على شهادات جامعية؛ وهم مجموعة تقلصت من نحو 71 بالمئة من جمهور الناخبين سنة 1976 الى نحو 39 بالمئة سنة 2018.  
ستعتمد احتمالات النزعة الشعبوية القومية المحافظة على أداء الديمقراطيين خلال السنوات الأربع المقبلة أكثر من أي شيء آخر؛ فاذا فشل الديمقراطيون في معالجة المحنة الاقتصادية للطبقة العاملة أو كبح تجاوزات جناحهم الثقافي اليساري، أو اذا سمحوا بعودة الهجرة غير المُرخصة أو الجريمة الى سابق مستوياتها العالية؛ فقد يرفرف لواء “الترامبية” ثانية على البيت الأبيض. 
 
صحيفة الغارديان البريطانية