حينما حطم رباع أميركي الستار الحديدي

بانوراما 2020/11/30
...

  دان بيليشوك
  ترجمة: بهاء سلمان
ضحك الجمهور بشكل خافت مع صعود الرجل (البالغ وزنه 155 كيلوغراماً) على المنصة، اذ  برز جسده البصلي الشكل على نحو محرج من بدلته الملاصقة لجسمه، ليصل الى قضيب حديدي يزن 173 كيلوغراماً، رفع الرباع البدين، الذي لا يتجاوز عمره 22 عاماً، الأثقال آنذاك بسهولة فوق رأسه، ليطلب بعدها من المشرفين على المسابقة الرياضية جعل الوزن الاجمالي 183 كيلوغراماً، بقدر يزيد عن الرقم القياسي العالمي بأكثر من تسعة كيلوغرامات؛ لتنقطع أنفاس الجمهور الحاضر في القاعة الرياضية لمتنزه غوركي بالعاصمة السوفيتية موسكو، مع ادراك القلة بأن هذه اللحظات ستسجل حادثة تاريخية مشهودة.
اتخذ المتسابق الضخم البنية وضع القرفصاء لينظف العمود الحديدي وصولا الى كتفيه، بعدها جاهد محاولا رفعه، لكن يديه خانتاه، ومع عزم لا يلين، حاول مجددا، ليتمكّن هذه المرة من مد يديه الى الأعلى حاملا الأثقال بثبات هائل، لم يضحك أي شخص حاضر حينها، وفي الحقيقة، وكما ينقل مراسل صحيفة نيويورك تايمز الأميركية الذي حضر اللقاء: “صار لسكان موسكو بطل رياضي جديد، أميركي الجنسية،” وعلى هذا النحو، تلقى الاتحاد السوفييتي النكهة الأولى للتفوّق الرياضي الأميركي.
قبل عقود من حصول “معجزة فوق الجليد” سنة 1980، حينما أزعج الفريق الأولمبي الأميركي لهوكي الجليد نظيره السوفييتي بالتغلّب عليه في نهائي الدورة الأولمبية آنذاك، كان هناك الرباع باول اندرسون، فمع رفعته البارزة خلال منافسات سنة 1955 تلك، أثناء اللقاء الودي الأول بين القوتين العظميين، أصاب ند أميركا الجديد في الحرب الباردة بالصدمة، وبات الرمز الفوري للشجاعة البدنية الأميركية.
أزمنة صعبة
كانت الفترة التالية مباشرة للحرب العالمية الثانية تمثل زمنا لتحديات كبرى لمعظم الدول، فمع إعادة اوروبا بناء نفسها من رماد حطام الحرب، عزز الاتحاد السوفييتي قبضته على الجزء الشرقي للقارة، أما الولايات المتحدة، فقد عملت إدارة الرئيس ايزنهاور على خلق وسائل تنشر التفوّق الأميركي بقدر ما تتمكن؛ وكان الصراع القائم بين الرأسمالية والشيوعية يجمع وقوده المدمر.
بالنسبة للمنتصرين في الجانب الغربي من المحيط الأطلسي، حصل أن تميّزت لديهم فترة مما يصفه المؤرخ “جون فير” بـ”العصر الذهبي لرفع الأثقال الأميركي”. واستفادت هذه الرياضة الناشئة من سخاء بوب هوفمان مؤسس شركة يورك باربيل (شركة أميركية دولية متخصصة بمنتجات اللياقة البدنية – المترجم)، ملك المال المعروف بتمويله بشكل شخصي تطوّر رفع الأثقال للفترة ما بين 1945 لغاية 1960، ورعى البطولات الوطنية وأرسل الرياضيين الى شتى أنحاء العالم حيث الدورات الأولمبية والمسابقات الأخرى؛ وكان اندرسون أحد اولئك المتسابقين المحظوظين.
ولد بطل رفع الأثقال سنة 1932 في بلدة صغيرة تقع شمالي جورجيا، وكان في صباه مبتلى بمشكلات صحية، فقد ازعجته كليته طول حياته، حتى تسببت بوفاته في نهاية المطاف عن عمر ناهز 61 عاما، ولم يظهر علامات كثيرة على أنه سيصعد الى مستوى رجل قوي، لكنه عند بلوغه سنة التخرّج من الاعدادية، أدهش رفاقه ضمن فريق كرة القدم بسرعة تطوّر مهاراته، التي جعلته يحظى بمنحة دراسية لجامعة فورمان، لكنه سرعان ما تخلى عنها، كما كتب هو بنفسه من خلال كتاب سيرته الذاتية المكنى “الرجل الأقوى في العالم” الصادر سنة 1975.
 
ظروف متباينة
ومع عدم امتلاكه لما يكفي من المال والحافز، صادف أن التقى اندرسون مع جمع من الرباعين، ليقيم صالة ألعاب رياضية منزلية من أنقاض الخردة. وسرعان ما شرع بالتنافس في أرجاء شرق الولايات المتحدة خلال بداية عقد الخمسينيات، مدهشا المراقبين من تحقيقه لرفعات متنوّعة بأوزان كبيرة، خلال ذلك الوقت، كانت فكرة اقامة لقاءات ودية سوفيتية أميركية قد نوقشت كثيرا من قبل مسؤولي خارجية البلدين، وهي جزء من برنامج التبادل الثقافي الذي أطلقه البيت الأبيض سنة 1954. 
وبينما تلتها عدة توقفات في منطقة الشرق الأوسط، كانت مباريات موسكو هي الحدث الأهم لرحلة الفريق الرياضي الأميركي، وعندما قدم رجال الفريق الستة أنفسهم على منصة قاعة متنزه غوركي مساء ذلك اليوم الموعود، كان اندرسون، الذي حل في اللحظة الأخيرة بديلا لزميل مصاب، ظاهرا بشكل بارز عن الباقين، إذ بدت ساقاه الضخمتان وكأنهما جذعا شجرة، ولم يكن أحد ما ليصدّق الضخامة البدنية لهذا الشاب، بحسب المؤرخين.
لم تحظ بقية أحداث اللقاء بأهمية تذكر، ولم يكن من الممكن اغفال تسجيل انجازه من الناحية الفنية كرقم قياسي عالمي، لأن اللقاءات الودية الثنائية لا يعتد بها لأجل هذا الأمر، ولم يبد مهما كذلك انتهاء المسابقة بالتعادل بين السوفييت والأميركان، فقد كان اللافت للنظر هو اصابة الجمهور المحلي بالذهول لما حققه اندرسون، الذي كتب التالي: “وقف الرجال على الكراسي يصيحون بأعلى أصواتهم، بعضهم رمى قبعته عاليا في الهواء”.
 
بطل قومي
لا يوجد هناك شك في الأهمية التاريخية لرفعة اندرسون المحققة للنصر، فمن كان حاضرا بتلك الحادثة أدرك بشكل جلي أنه يشهد صناعة للتاريخ. ومع عودته للديار، استقبل الرباع الشاب بتحية الأبطال الاميركان، وأعلن حاكم جورجيا يوم الخامس من تموز كيوم باول اندرسون في ولايته، وقدّم عمدة اتلانتا الرياضي اليافع بوصفه أحد مشاهير المدينة، وامتدح عدد من النواب بشكل علني انجازه، بينما أبدى نائب الرئيس آنذاك ريتشارد نيكسون اعجابه الشخصي باندرسون، وساعده لترتيب رحلة أخرى للنوايا الحسنة، هذه المرة الى العراق وجنوب آسيا، في وقت لاحق من السنة نفسها.
لم يدم بريق اندرسون طويلا، فبعد فوزه بالميدالية الذهبية لدورة ملبورن الأولمبية سنة 1956، ومع احترافه للعبة، بدأت رياضة رفع الأثقال الأميركية بالانحدار بسبب ضعف التمويل والدعم الحكومي. بعد عودته الى منزله في جورجيا، افتتح “دار باول اندرسون” للشباب، وهو مركز اجتماعي للمراهقين المضطربين نفسيا، ولا يزال المركز قائما حتى الآن.
كانت دول الكتلة الشرقية تبني فرقها الخاصة بها معتمدة على دعم هائل تتلقاه حكوماتها من عاصمة الاتحاد السوفييتي؛ وما زال ذلك الإرث محسوسا الى يومنا هذا، فالغالبية العظمى من حاملي الأرقام القياسية الاولمبية للنصف الثاني من القرن العشرين كانت لرباعين روس أو بلغاريين. ومع ذلك فإن جمهور رفع الأثقال الأميركي، المتعلّق بشذى أيام الانتصارات الرائعة، سيتذكر على الدوام حزيران 1955، وباول اندرسون.
 
مجلة اوزي الأميركية