مسيحيو العراق.. تناقص مستمر رغم الأمل بالبقاء

بانوراما 2020/11/30
...

 هيئة محرري وكالة الصحافة الفرنسية
 ترجمة: ليندا أدور
بعد ظهيرة يوم الأحد، قرعت كاتدرائية القديس يوسف الكلدانية في بغداد أجراسها إيذاناً ببدء «القداس» لمن تبقى من الأعداد المتناقصة من المسيحيين الذين لا يزالون يسكنون العاصمة العراقية رغم كل التحديات والصعاب.
تقول مريم (17 عاماً)، من الطائفة الكلدانية، وهي واحدة من بين بضع عشرات من الأشخاص ممن حضروا خدمة القداس: «هنا (تقصد به الكنيسة) مساحة آمنة»، حيث، نساء كبيرات في السن، وقد جلسن بكل احترام للصلاة ورؤوسهن مغطاة بوشاح ناعم أسود اللون، وأغلقت الحبال الحمر بالتناوب، صفوف مقاعد الكنيسة تنفيذا للتباعد الاجتماعي الذي فرضته جائحة كورونا، لكن، على أية حال، أعداد المصلين لم تكن كافية لملء مقاعد الكنيسة، فما تبقى من المسيحيين في العراق لا يتجاوز بضعة مئات الآلاف، بعد ان مهد الاجتياح الأميركي للبلاد سنة 2003، الطريق لحرب طائفية أتت على مجتمعات البلاد المسيحية التأريخية والمتنوعة».
 
أمل ضئيل
يتفق نائل (53 عاماً)، الشماس لدى كاتدرائية القديس يوسف، والذي فضل ذكر اسمه الأول فقط، مع ما ذهبت اليه مريم بقوله: «هاجر الجميع بعد العام 2003، والدي ووالدتي وأشقائي، وانا الوحيد الذي بقيت هنا، وسبب بقائي هو انني كنت أتأمل أن تتحسن الأوضاع». لكنه بعد 35 عاماً قضاها في خدمة الكنيسة، وهو يرى التناقص المستمر في عدد رعيتها عاما بعد آخر، لم يتبق من أمله سوى القليل. يقول نائل مستذكرا: «كانت الكنيسة تمتلئ بالكامل حتى خلال الأيام العادية»، مضيفا «لكن هناك تناقصا في الأعداد (اي المسيحيين) والهجرة المستمرة طيلة السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة، ومن أتباع هذه الكاتدرائية على وجه الخصوص».
تعرضت العديد من المجتمعات المسيحية القديمة في العراق بمختلف طوائفها الآشورية والأرمنية والكلدانية والبروتستانتية الى الاستهداف المباشر، وأحد أبرز الأمثلة على تلك الهجمات المروعة هو ما حصل بداية خريف العام 2010، عندما أقدم مسلحون على احتجاز رهائن وقتل آخرين داخل كنيسة سيدة النجاة وسط بغداد. تلاه ما جرى صيف العام 2014، أثناء اجتياح عصابات داعش الارهابية لمحافظة نينوى، التي تعد «قلب» الأقليات في العراق، اذ هُجر العديد ليس فقط من المسيحيين، بل من الإيزيديين والتركمان الشيعة وغيرها من الأقليات، من منازلهم بعد سيطرة عصابة داعش على المدينة، أو أرغموا على التحول الى الإسلام تنفيذا لحكم العصابة المتطرفة.
 
تمييز وفساد
يقول وليم وردة، المؤسس المشارك لمنظمة حمورابي لحقوق الانسان، أن أعداد المسيحيين في العراق قد تراجعت لتصل الى 400 الف فقط بعد أن كانت نحو مليون ونصف المليون قبل العام 2003، اذ أغلقت الكثير من كنائس بغداد أبوابها، من بينها كنيسة الثالوث الأقدس، بمنطقة البلديات، لتقتصر على تقديم الخدمات العادية منذ نحو أربع سنوات. أما كنيسة قلب يسوع الأقدس للأرمن الكاثوليك بمنطقة الكرادة في بغداد، اذ يمنع قفل علاه الصدأ، الدخول اليها منذ العام 2007، بينما أحاطت متاهات من الكتل الخرسانية والحواجز الأمنية، بتلك الكنائس التي بقيت مفتوحة.
متحدثا عن حي الدورة الذي يقع جنوبي بغداد والذي كان ذات يوم موطنا لما يقرب من 150 ألف مسيحي منهم أطباء ورجال أعمال وأصحاب مقاهٍ، يقول وردة: «لم يبق منهم سوى ألف شخص».
ويشير يونادم كنا، السياسي المسيحي، الى أنه بالرغم من إعلان العراق هزيمة عصابات داعش الإرهابية منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، لكن «التهديدات والخطف والابتزاز والقتل لا تزال موجودة». في الوقت الذي يضمن فيه الدستور العراقي مستوى واحدا من الحماية لجميع الأقليات، إلا أن الكاردينال لويس ساكو، بطريرك الكلدان يقول ان التمييز في واقع الأمر، أدى إلى إبعاد المسيحيين عن المجتمع، يقول ساكو: «اليوم، لا يوجد ضغط بصورة مباشرة على المسيحيين، لكن هناك تمييزا وبشكل يومي لهم».
مسألة حياة
يقول البعض ان كل ذلك أدى الى تآكل الشعور بالانتماء، «هناك شعور بين معظم المسيحيين بأن البلاد تتجه لتصبح أكثر تحفظا، والمسيحيون- وحتى العلمانيين من المسلمين- لا يمكنهم العيش فيها بعد الآن»، وفقا لوردة.
يؤيد نينوس (25 عاما)، يعمل خبير تجميل ويتطلع للهجرة، هذا الكلام بقوله: «أحيانا، يمكن أن أرى نفسي هنا، لكن معظم الوقت، أجد الا وطن لي هنا»، مضيفا «أصبحت الأمور لا تتناسب وطبيعة عملي وطريقة تفكيري أو كيف أطمح لتطوير نفسي».
بالنسبة لآخرين، المسألة هي مسألة حياة، فقد تعرض العراق الى صدمات مزدوجة تمثلت بانهيار أسعار النفط  وجائحة فيروس كورونا المستجد، ما أدى الى حدوث أسوأ أزمة مالية يمكن أن تشهدها البلاد منذ عقود، وهو ما دفع مريم للبحث عن فرص أفضل للعيش خارج وطنها، تقول: «صراحة  الكل يفضل البقاء في وطنه» مضيفة «أنا أحلم بالسفر، لكنني أحلم، أيضا، بأن يوفر لي بلدي كل ما يملكه الآخرون، حينها يمكنني البقاء هنا».
 
*موقع فرانس 24 الإخباري