احلام ألاباما السوداء

بانوراما 2020/12/03
...

سانديا كولا  ترجمة: بهاء سلمان

مشت "روزا باركس" عبر شوارع ولاية ألاباما المبتلاة بالتمييز العنصري، وبكل عزيمة واصرار، كانت ماضية في طريقها لتنفيذ أحد أول نشاطاتها المناهضة لقانون "جيم كرو" المسيطر على ولايتها؛ لكنها لم تتقدم نحو موقف الحافلة، فالاحتجاج على تمييز مقاعد الجلوس داخل الحافلات سيأتي لاحقاً في حياتها، وانما ذهبت بدلاً من ذلك إلى تجمع سري مثل لاحقاً أولى غزواتها السياسية: اجتماع شيوعي سري، يعج باشتراكيين سود البشرة من أبناء ألاباما.
وبينما تعد باركس مشهورة عالميا، فإن خلفيتها الشيوعية مثلت جزءا رئيساً وغير مروي من قصتها، التي غطت عليها حركة الحقوق المدنية، التي يعرفها بها الكثيرون، ويذهب بعض المؤرخين حتى إلى أنه من المعقول أن تكون ألاباما، وهي مهد حركة الحقوق المدنية، مكانا لدائرة شيوعية مفعمة بالنشاط، ربما ليس من ناحية العدد وإنما بالتأثير الملموس.
"المناطق ذات الحضور الشيوعي القوي، كانت تنشط فيها أيضا حركة الحقوق المدنية،" كما يوضح المؤرخ روبن كيلي، مؤلف كتاب "المطرقة والمجرفة"، الذي ركز على الزنوج الأميركان والشيوعية، ويؤكد كيلي إن الحزب الشيوعي مثل دورا جوهريا لوضع البنية التحتية لحركة الحقوق المدنية في ألاباما.
 
ارتباطات سريَّة
تعلّم العديد من قادة الحقوق المدنية تعاليم الشيوعية، مثل هوسيا هودسن، الزعيم العمالي الشهير ذي الأصول الأفريقية، الذي كان قد درس الماركسية في روسيا؛ علاوة على عدد آخر من منظمي حركة الحقوق المدنية المتأثرين بالثقافة الشيوعية، وكانت لدى باركس أيضا روابط حزبية، فمع إنها لم تنتم إليه مطلقا، كانت تحضر اجتماعات يترأسها الشيوعيون خلال سنوات كفاحها الأولى، لكن زوجها رايموند كان أكثر قربا من الحزب.
ورغم أن عدد الشيوعيين في ألاباما لا يقارن بمثيله في نيويورك أو أية مدينة شمالية كبرى، كان مجتمع زنوج الولاية يمثل معقلا حقيقيا للنشاط الشيوعي ضمن فئة الأميركان السود البشرة بشكل عام؛ فقد كانت مدينة برمنغهام، على وجه الخصوص، تمثل مركزا للصناعة الجنوبية، مع طبقة عمالية زنجية ظاهرة للعيان بشكل جلي، لدرجة تسمية المنطقة بـ"الحزام الأسود". وهكذا اصبحت المدينة هدفا طبيعيا لما أطلق عليه "الشيوعية الدولية"، وهي منظمة سعت لبناء مجتمع شيوعي ضمن نطاق عالمي، كمصدر واعد للمتحوّلين الزنوج الأميركان، كان لرفض الحزب الشيوعي التمييز العنصري كقالب رأسمالي لاستغلال العمال، اضافة للشعار المعروف؛ "العالم الجديد"، صداه العميق بين الأميركان الأفارقة. واذا ما تسنى لنا احصاء الفرع المحلي لولاية ألاباما ضمن أعداد الحزب الشيوعي الأميركي، ومعه منظمات ثانوية مثل "الدفاع عن العمال الدولية" و"اتحاد المزارعين"، سنجد أن نحو عشرين ألف فرد ألابامي كانت لديه علاقة بالحزب الشيوعي خلال فترة ذروته.
 
إنقاذ الفتية
كانت إحدى المساهمات الأكثر شهرة للشيوعيين في السياسة الأميركية هي قضية سنة 1931 المعروفة بـ"فتية سكوتسبورو"، التي ادعت فيها امرأتان من البيض زورا اغتصابهن من قبل تسعة مراهقين 
سود. 
وبينما كانت الستراتيجية القانونية للجمعية الوطنية للنهوض بالملونين (منظمة حقوق مدنية للأميركان من ذوي الأصول الأفريقية في الولايات المتحدة - المترجم) هي كسب المعركة عبر المحاكم والقانون، كانت منظمة الدفاع عن العمال الدولية، وهي الذراع القانوني للحزب الشيوعي، قد طوّرت ستراتيجية أقوى تمثلت بإجراء المرافعات في محكمة رأي عام؛ لتطلق خطابات وتجمعات حاشدة دعما لفتية سكوتسبورو التسعة عبر العالم. 
رأى بعض الباحثين في هذه القضية حالة واضحة من التدخل الشيوعي لدرجة قوّضت دعم القضية داخل أميركا لسبب قانوني.
لكن البعض يرى الأمر من وجهة نظر أخرى، فمن خلال إثارة الدعم العام الدولي للفتية، صارت "سكوتسبورو" مرادفة للعنصرية والقمع والظلم الممارس في الجنوب، بحسب ما يدوّن المؤرخ دان كارتر. 
يقول كيلي: "الحقيقة هي أنهم كانوا سيتلقون عقوبة الاعدام ما لم يكن هناك تحرك وضغط عال، وبالتالي كانت منظمة الدفاع مسؤولة عن انقاذهم، وكانت المأساة في تلقيهم حكما بالسجن، إلا إن حياتهم قد تم انقاذها." علاوة على ذلك، ومن خلال دفع القضية الى الرأي العام، كان الضغط الشيوعي يعمل على تغيير الخطاب العالمي الدائر حول الأميركان الأفارقة؛ فقد تجاوزوا نموذج الرجال السود المجرمين، ليظهروهم كضحايا للاضطهاد، وكذلك النساء الزنجيات تجاوزن مرحلة الأمهات النائحات.
 
استثمار الظرف
ما زالت قضية سكوتسبورو تذكر حاليا بوصفها تسريبا أجنبيا إلى السياسة الأميركية وقوة خارجية تتدخل بالشؤون المحلية. 
يقول كينغور: "رأى المنظمون الشيوعيون فرصة هائلة باستغلال تلك القضية كآلية تحشيدية لصالح الأميركان السود." 
وغالبا ما كان ينظر الى الشيوعية كجسم غريب على الثقافة والتاريخ الأميركي، مع ان الحزب الشيوعي لألاباما يظهر، في حقيقة الأمر، وكأنه متأصل ومحلي للغاية.
وكانت الاجتماعات المنظمة من قبل الشيوعيين السود غالبا ما تتقاطع مع الصلوات ومظاهر الدين، فكانت العلاقة شائعة جدا بين الديانة المسيحية، التي تمثل أمرا متكاملا للغاية مع حياة كل فرد جنوبي، وبين الشيوعية التي بدت واقعا غريبا جدا على ما يبدو. ويرى كيلي أنه في الوقت الذي يتم تقديم الشيوعية غالبا بوصفها فكرة كافرة، تمثل العقيدة الفكرية نفسها نوعا من الايمان، وبالتالي يبدو الشيوعيون الأكثر اخلاصا هم الأكثر تديّنا، حتى وإن اعتبروا أنفسهم ملحدين، بحسب كيلي.
غالبا ما يعمل الحوار التاريخي على ذم الدخلاء الساعين لتشويش المجتمعات. ومع ذلك، كانت الشيوعية بالنسبة لعمال ألاباما السود، الذين شعروا بالعزلة والحصار من القوى العدوانية، تمثل قوة دولية تعرض عليهم الحماية والتضامن، لكن كانت سمعة الشيوعية داخل أميركا مسمومة للغاية لدرجة أن الناشطين المعتنقين لأفكارها ونماذجها غالبا ما يخفون أصولهم. يقول كيلي: "جعلني هوسيا هودسن أقسم بكتم سر مفاده أنني إذا قمت بإبلاغ أي شخص بحضور روزا باركس الى اجتماعاتنا، عندها سأتعرض للعقاب." غير أن ذلك الحال صار أخف مع توالي السنين: "في نهاية المطاف، قام هوسيا بتعريف نفسه للعالم".