اكوام من الاسمنت والطابوق تغلق شوارع العاصمة
ريبورتاج
2020/12/05
+A
-A
ذوالفقار يوسف
وقف احمد غانم (34 عاماً) امام هذا المنزل، وهو من المحافظين على نظافة شارعه مع جاره ابي سعد، الرجل المسن الذي تقاعد مؤخراً، يشارك احمد العمل كلما رآه ينظف بقايا الاتربة والاوساخ المتناثرة من عجلات المركبات وما يرميه الصغار من اغلفة عند شرائهم الحلوى، اذ ان هدفهما هو عدم وصول الاتربة ودخولها الى منفذ المجاري الوحيد الذي يقع في نهاية الشارع، فما أن يغلق هذا المنفذ فهم في مصيبة كبيرة حسب قول احمد؛ هز احمد يديه محاولاً تنبيه العمال على هذا التجاوز، الا انهم رمقوه بنظرة تساؤل جعلته يواصل المسير خوفاً من المشكلات.
"طريقك مسدود ياولدي"
وصل احمد الى مقر عمله الكائن في مدينة الاعظمية، وما أن دخل الغرفة انتظر صديقه علاء ماجد (38 عاماً) الذي اعتاد أن يطلق الدعابات كلما وصل، الا ان هذه المرة عم الصمت في غرفتهما التي تضم مكتبين، وقبل أن يسأله احمد عن سبب وجهه المتجهم، اجابه علاء وكأنه يعاتبه بدل أن يعاتب المسبب لشعوره هذا "سدوا الشارع الله لا يوفقهم"، سأله احمد من هم الذين اغلقوا الشارع، ليجيبه ولكن هذه المرة بصوت اعلى "ماكو دولة.. ماكو نظام ولا قانون"، كان واضحاً على احمد التعجب لهذه المصادفة الغريبة التي حدثت باليوم نفسه، ما أن علم بأن احد اصحاب المنازل الذي باشر ببناء منزله في الشارع الذي يسكن فيه علاء قد اغلق الطريق على عجلته، وهذا ما دفعه للمجيء الى العمل بوسائل النقل العامة، حاول احمد أن يشاركه ما رآه واخبره ليهون على صديقه الامر، الا انه كان اصعب مما يتصور، فعلاء كان قد وعد والده بان يحضر واسرته لزيارته في المساء، لذلك تأكد احمد بأنه حُرم من دعابات علاء لهذا اليوم.
شكوى معدومة
وما أن تخرج من المنزل وقد جهزت نفسك بافضل الملابس والعطور، سوف تواجهك جيوش من الاتربة التي تحملها الرياح من الشوارع، فضلاً عن روائح النفايات التي تمتلئ بها الساحات القريبة من الازقة، ان الاعتياد على هذا الامر جعل شكوى المواطنين شبه معدومة.
مروة الصالحي (29 عاماً) ترى انها قادرة على أن تتحمل كل المظاهرالسيئة الموجودة في الشارع حتى لا تكون محبطة وتواصل عملها بارتياح، الا انها خرجت من مزاجها السعيد ذات يوم عند مرورها من امام احد المنازل الذي يقوم العمال باضافة واجهة له من الحجر والمرمر وقد نصبوا البراميل الفارغة التي وضعت بالمقلوب على الرصيف، فهم يضعون عليها ما يريدون من الحجر ويقومون بتقطيعه بواسطة آلة، يحتم رئيس العمال على من يقطع الاحجار أن يوجه الآلة نحو الشارع، فهو يعاني تحسساً من الاتربة وبقايا الغبار المتناثر عن التقطيع، تقول مروة "حينها كنت ارتدي تنورتي السوداء، فهي المفضلة لدي لكونها هدية من والدتي رحمها الله". لقد شدها صوت الآلة اولاً، بعدها موجة الغبار والاتربة المتطايرة من الآلة نحوها، تجمدت في مكانها كأنها تمثال مصنوع من هذه الاحجار نفسها، وقد انقلب لون تنورتها الى اللون الابيض.
فرحان والمزلقة
وكحب مروة لتنورتها السوداء، عشق الاطفال للعبة المزلقة وكما يسميها العراقيون (الزحليكة) لا مثيل له، فقد جعلهم حب هذه اللعبة يستغلون كل ما يشابهها ويقفزون من فوقه للتزحلق، اما الطفل فرحان (13 عاماً) فلا يعترض طريقه اي شيء نحو هذه اللعبة، فقد تراه يجمع الوسائد والاغطية ليصنع منها مزلقته الخاصة، في احد الايام دخلت والدته لتندهش مما رأته، فقد حول الطاولة الخاصة بكي الملابس الى لعبته المفضلة، الا ان الشارع له وقع اخر لفرحان، فتلال المواد الانشائية هي ما يستهويه ويسعده، وحجمها مثالي لجعلها مزلقة يفرح بها فرحان، تحدثنا والدته "ما أن يرجع الى المنزل الا وتكون ملابسه مليئة بالاتربة والرمل، كل يوم اسأله من اين جاء هذا الرمل؟، يجيبني بأن جارنا ابا محمد قد وضع تلا كبيرا من مواد البناء في الشارع، لانه يريد ترميم منزله، وفي يوم اخر اجابة اخرى، بأن صديق والده امجد ينوي الزواج لهذا فهو يبني منزلاً صغيراً في حديقة منزل والده وقد وضع كومة من اكياس الاسمنت على الرصيف الذي امام منزله".
ام فرحان خائفة أن يبقى هذا الامر مستمراً، فهي تحاول الادخار لشراء مزلقة كبيرة لفرحان لتضعها في باحة المنزل، وهي خائفة، الا يعير اهتماماً للعبة، ويعتاد التزحلق على مواد البناء.
عودة مرتين الى الوراء
كما يعود فرحان كل مرة الى المنزل بملابسه الملوثة بمواد البناء المكدسة، يحاول عبد العظيم جابر (34 عاماً) أن يعود الى منزله بأقصى ما يمكنه من سرعة بعجلته، فقد ارتفعت حرارة طفله الرضيع، ولابد من اخذه الى المشفى، جابر معتاد على طريق واحد، ان اغلب الشوارع في هذا الطريق تكون فيها المطبات والحفر قليلة كما يقول، لذلك هو طريقه المفضل، وما أن يقرر الانسان أن يصل الى مبتغاه باسرع وقت الا وقد واجهته عشرات العوائق، فحسب قوله "الكدر ما كدر"، فما ان دخل الى احد الشوارع الا ووجد عجلة كبيرة تحمل اكياس الاسمنت وهي تغلقه، في هذه الاثناء يقوم العمال بحمل هذه الاكياس الى داخل المنزل، عاد عبد العظيم ليجد مخرجاً اخر يوصله الى منزله، شارع اخر قد اغلق، كانت هناك حملة لترميم المدرسة القريبة من منزله، ابتسم عبد العظيم بعد ان اقسم بالله العظيم انه سوف يبيع منزله ليسكن منطقة اخرى.
"77"
منظر الطرق المغلقة بالمواد الانشائية ذكر العراقيين بحقبة ليست بعيدة، عندها كانت شركات صناعة الكتل الاسمنتية تتنافس فيما بينها لكسب عقد تزويد دائرة ما بكتل خرسانية، او عقد لاغلاق شوارع مدينة ما بالصبات الكونكريتية، هذا ما بدأت به الشركة الكردية التي تدعى (77) بعد ابرامها عقودا مع القوات الاميركية والحكومة العراقية وصلت قيمتها الى اكثر من مليار و800 الف دولار وفق ما صرح به مدير الشركة، وبعد اكثر من 15 عاماً من الاغلاق الذي دمر وجه العاصمة، تمت ازاحة تلك الكتل، بينما بدأت مظاهر عديدة تشابهها بالظهور لتذكرنا بأننا معرضون للمعاناة نفسها، ولكن هذه المرة من المواطنين انفسهم، فلا رقيب ولا عقوبات رادعة تنهي عدم الشعور بالمسؤولية، ان الحروب والازمات جعلت من المواطن غير آبه للقوانين، انها مشكلة كبيرة أن يؤذي الانسان نفسه ويدمر بيئته بهذه الطريقة، في النهاية الشارع والرصيف والزقاق هي ملك للشعب، اتساءل احياناً ماذا لو كان الشارع باسم مواطن واحد، من الحزب الفلاني او من اقرباء احد المسؤولين، هل ستكون النتيجة نفسها؟.
صوني الأمانة يا أمانة
وبالرغم من ازدياد البناء في السنوات الاخيرة، الا ان هذا لم يكن السبب الوحيد في عدم قدرة امانة العاصمة وبلدياتها على سد جميع المخالفات، فضلا عن الغرامات التي كانت تفرض على المخالفين وزيادتها لتكون 250 الف دينار بعد ان كان مقدارها 50 الف دينار فقط، فحسب "قانون أمانة بغداد لمخلفات مواد البناء ذي الرقم 16 تفرض غرامة مالية على المواطنين المخالفين لشروط البناء"، الا ان الامر ليس بهذه السهولة، اذ ان الاتهامات التي تصدر من مجلس محافظة بغداد تجعل المواطن يتساءل، هل هناك تهاون في فرض الغرامات من قبل موظفي الامانة على المخالفين؟. اذ ان المجلس اتهمهم بالفشل والفساد، والكل يعرف بأن الاخير هو سبب خراب البلد ودماره.