المهاجرون الأطفال وخدعة الابوية الاميركية

بانوراما 2020/12/14
...

اورا بوغادو وميليسا 
ترجمة: بهاء سلمان
عندما حلت بداية شهر حزيران الماضي، كانت إحدى الفتيات البالغة من العمر 17 ربيعا، والآتية من هندوراس، قد حصلت على ما كانت تريده بفارغ الصبر منذ أن كانت في سن العاشرة، وهو: التحرر من الحبس الأميركي.
تم ترحيلها من قبل سلطات الهجرة الأميركية الى مدن متعددة في البلاد ولفترة طويلة من طفولتها، وأقامت في ملاذات اللاجئين ودور الرعاية بولايات اوريغون وماساشوسيتس وفلوريدا وتكساس ونيويورك، وتم إبعادها، لأسباب غير مفهومة، عن جدّتها وعماتها اللاتي ربّينها. ونتيجة لانقطاعها عن أسرتها، بدأت هذه الفتاة بإيذاء نفسها، ووصفت لها قائمة من عقاقير المؤثرات النفسية الشديدة. ولم يتم تعليمها اللغة الانكليزية، أو تعلّم القراءة، أو اكتساب المهارات الحياتية الأساسية، كالطبخ وغيرها؛ ولم يربت على كتفها أحدٌ لسنوات.
في نهاية المطاف، اتخذت قرارها بأن طلبت ترحيلها للعيش في قرية جبلية هندوراسية نائية مع والدتها، التي لم تربها. والمفاجأة أنها عندما قدمت طلبها، كان هناك أمر لم تعلم به البنت، وهو رغبة جدّتها وعماتها بجلبها الى منزلهم في ولاية نورث كارولاينا.
ومع حلول مطلع حزيران الماضي، ووسط جائحة كورونا، انطلقت تلك الفتاة بطائرة أوصلتها الى سان بيدرو سولا، حيث عالم الجوع والعنف والفقر. ورغم ذلك فقد بدا لها أن أي شيء تراه سيكون أفضل من قضاء عام آخر في ملاذ أميركي للمهاجرين.
 
سلطة مطلقة
يملك المكتب الأميركي الاتحادي لإعادة توطين اللاجئين تفويضا واضحا مفاده احتجاز الأطفال مؤقتا أثناء البحث لهم عن موطن، إما مع الأسرة، أو أصدقاء يقيمون داخل الولايات المتحدة، أو عند دور الرعاية. لكن بيانات جديدة تكشف أن أعدادا هائلة من الأطفال كانوا عالقين رهن دور الاحتجاز لمدد طويلة، وعاشوا جزءا كبيرا من طفولتهم تحت نظام الملاذات الحكومي الذي هو في أفضل الأحوال غير مجهّز بما يلائم تنشئتهم، ما عدا ذلك فهو محطة لإساءة التعامل والأذى.
البيانات التي تم استحصالها من خلال دعوى قضائية قدمها مركز التقارير الاستقصائية الأميركية (منظمة أخبار غير ربحية تختص بالصحافة الاستقصائية منذ سنة 1977، ومقرها ولاية كاليفورنيا– المترجم)، تظهر احتجاز الحكومة الأميركية أكثر من 25 ألف طفل مهاجر لأكثر من مئة يوم على امتداد السنوات الست السابقة. كان هناك ما لا يقل عن 266 ألف طفل محتجزين عند الحكومة، بحسب السجلات، بمعنى أن واحدا من كل عشرة منهم خاضوا تجربة احتجاز مطوّلة.
قضى نحو ألف طفل مهاجر أكثر من سنة في ملاذات اللجوء، وبقي ما لا يقل عن ثلاثة أطفال أكثر من خمس سنوات قيد الاحتجاز منذ سنة 2013. في بعض الأحيان، وضعت فتيات مراهقات حملهن أثناء احتجازهن فازداد عدد الأطفال لدى وكالة اللاجئين، وتكشف السجلات عن ستة أطفال ولدوا بجنسية أميركية تم إبقاؤهم لسنة أو أكثر في ملاذات تكساس واريزونا.
 
معلومات مرعبة
وكردٍّ على انتقادات وجهت لسياسة ادارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب بخصوص الانفصال الأسري، قال مسؤولو اللجوء إنهم خفضوا متوسط المدى الزمني لبقاء الأطفال المهاجرين في عهدتهم. وبحسب الوكالة، أمضى الأطفال 66 يوما كمتوسط ضمن نظام الاحتجاز للسنة المالية 2019 قبل اعادة لم الشمل مع أسرهم، أو تسكينهم مع كفيل أو أسرة رعاية، أو الترحيل خارج البلاد.
وتوضح البيانات الجديدة للحكومة أن غالبية الأطفال الذين تم إسكانهم بعهدة دائرة إعادة توطين اللاجئين منذ العام 2014، تم ضم 74 بالمئة منهم الى أسر خلال مدة أقل من 66 يوما؛ وأن حالات الاحتجاز الطويلة الأمد كانت شائعة، ويعود تاريخها الى عهد الرئيس السابق باراك اوباما.
البيانات التي تغطي سنتين وأربعة أشهر من حكم اوباما وثلاث سنين وسبعة أشهر من حكم ترامب تبيّن زيادة حالات الاحتجاز المطوّل خلال فترة ترامب، إذ بقي 7400 طفل، نحو ستة بالمئة، وفق نظام رعاية اللاجئين الأطفال لأكثر من مئة يوم خلال عهد اوباما. وقفز الرقم الى نحو 17500 طفل، وتضاعف المعدل الزمني للاحتجاز بالغا 12 بالمئة سنة 2018، وبقي عشرون بالمئة من الأطفال في الملاذات لأكثر من مئة يوم.
لم يتّهم الأطفال بأية جرائم، كما تطبق الملاذات الحكومية قواعد صارمة وتفتقر لمتطلبات التعامل طويلة الأمد مع الاحتياجيات التعليمية والاجتماعية للأطفال. وما عدا الرحلات الميدانية القليلة، تمضي الحياة اليومية للطفل، من الفطور والمدرسة ودروس النصح والنشاطات الترفيهية داخل الملاذات. ويمنع الأطفال من اقتناء الهواتف النقالة، ويقنن استخدام الحاسوب؛ ويسمح بالإتصال الهاتفي مع أفراد الأسرة مرتين أسبوعيا، بموافقة ادارة الملاذ، ويكتفى بالمصافحة.
 
كذب حكومي!
خلال المناظرة النهائية مع المرشح الديمقراطي جو بايدن، الذي فاز مؤخرا في الانتخابات، سُئل ترامب عن الـ 545 طفلا الذين تم عزلهم عن آبائهم من قبل إدارته ولم يلم شملهم مطلقا، ردَّ الرئيس مدافعا عن التعامل معهم بالقول: "انهم يتلقون رعاية طيبة للغاية، وموجودون داخل منشآت نظيفة جدا". لكن المفتش العام للصحة والخدمات الانسانية وجد، قبل سنة، أن العديد من الأطفال المهاجرين عانوا من أذى شديد، مختلط مع الحاجة للتكيّف مع الأوضاع الشاذة في مراكز الايواء. وتوصل التقرير الى أن البقاء المطوّل زاد من معاناة الأطفال نتيجة للضغط النفسي والجزع.
ووثقت العديد من مقرات الاحتجاز قصص سوء المعاملة، شملت الاعتداءات الجنسية والبدنية. وهناك أمثلة كثيرة عن قدوم أطفال مهاجرين بأعمار صغيرة وبقائهم في مراكز ايواء لفترات تزيد على سنة قبل أن يتم ترحيلهم مرة أخرى الى بلدانهم الأصلية. اما الفتاة الهندوراسية، فقد وصلت الى الحدود سنة 2013 طالبة اللجوء مع شقيقها وإحدى عماتها وابن عمها، بعدما تعرّض عمها لكمين قتل على أثره. ولأنَّ الفتاة وشقيقها لم يصلوا مع والديهم، فصلتهما الحكومة عن عمتهما.
وضعت وكالة اللجوء البنت ذات العشر سنين وشقيقها ذا الثماني سنوات في دار رعاية مؤقت بمدينة بورتلاند في ولاية اوريغون، بينما كانت هناك مساعٍ تعمل للم شملهما مع راعي أسرتهما. كان أقارب البنت الذين ربوها في هندوراس، جدتها وعماتها وابناء أعمامها يقيمون في كارولاينا الشمالية آنذاك، وقدمت عمة البنت طلبا لرعايتها، وتوقع أفراد الأسرة تحقيق لم الشمل بمجرّد امضاء الاجراءات الادارية.
 
ترقّب بلا نتيجة
رعت الأسرة بنجاح أطفالا آخرين كانوا بعهدة وكالة اعادة توطين اللاجئين، وأعدت لهم أوراقا ثبوتية، وكانت تتصل بانتظام مع موظفي الوكالة بالهاتف. توضح الوثائق أن الحكومة كانت مستعدة لتسليم الأطفال الى أقاربهم في تشرين الأول 2014. بدلا من ذلك، أدخل الأطفال في برنامج دار رعاية طويل الأمد بولاية ماساشوسيتس. وبدأت البنت بإيذاء نفسها، بحسب الأسرة، إذ تذكر أن الطفلة كانت تضرب رأسها بالجدار نتيجة للقلق والتوتر من الاحتجاز، وتقول عمتها إن الطفلة اعتقدت أن إيذاءها لجسمها سيؤدي إلى إخراجها من دار الرعاية بسرعة.
لاحقا، توقفت المكالمات من الموظفين المكلفين بمتابعة القضية، بلا توضيح للأسباب، ولم تتمكن الأسرة من الوصول الى طفليها، ولم تعرف أي شيء عنهما لخمس سنين. وتقول جدتهما إنها بقيت تصلي لهما ليلا ونهارا، ولم تعرف عنهما شيئا وكأنهما قد ماتا. في تلك الأثناء، تم فصل البنت عن الولد، فقد وضع مع أسرة، ولديه حاليا اقامة دائمية في الولايات المتحدة؛ لكن البنت كبرت مع اعتقادها ان جدتها وبقية أقاربها قد تخلّوا عنها.
خلال فترة رعايتها، وصف للفتاة عدد من الأدوية النفسية الشديدة التأثير، وتشير خالتها التي قدمت طلب رعايتها، بعدم استشارة الأسرة مطلقا بهذا الأمر. وأدخلت الفتاة مصحّة عقلية مرتين بولاية تكساس، الأولى خلال تموز 2015 لنحو سنتين، والأخرى في آيار 2018 طالت لسنة كاملة.
 
قضاء متهاو
خلال فترة وجودها في المصحة، تحدث الأطفال عن احتجازهم واعطائهم العقاقير رغما عنهم، ومن دون موافقة ذويهم. وبرغم صدور حكم قضائي بمنع ادخال الأطفال المهاجرين في مركز "شيلوه" لرعاية الأطفال لخرقه القوانين المعمول بها، وتعريض الأطفال لسوء المعاملة وتناول مفرط للعقاقير، تشير سجلات جديدة الى دخول 61 طفلا الى المركز منذ صدور الحكم.
ويشير المختصون بعلم النفس الى صعوبة تقدير التأثيرات الناجمة عن فترات الاحتجاز المطوّلة على الأطفال، إذ يقول ديزي تومبسون، استاذ علم النفس بجامعة لوس انجليس بعدم معرفة ما يحصل على وجه الدقة للأطفال من النواحي التعليمية والمعرفية والاجتماعية عندما يكونون بلا اتصال مع العالم الخارجي لسنة كاملة، وبلا أسرة، وبلا قابلية على تعلّم القيم من خلال ممارسة النشاطات الروتينية اليومية وذلك لعدم توفر الكثير من 
الأمثلة.
ومع حلول مطلع العام الحالي، قدمت محامية الفتاة، المعيّنة من قبل الحكومة، طلبا الى محكمة الهجرة، وفقا لرغبتها، بالترحيل والعودة الى وطنها الأم، وقرر القاضي الموافقة على الطلب. وسترسل الفتاة الى إحدى أخطر مناطق العالم للعيش مع والدتها التي بالكاد تعرفها. لم يذكر أي أحد خلال جلسة المحكمة إقامة أقاربها الذين ربّوها في الولايات المتحدة، ويريدون رعايتها. 
أصيبت الفتاة بالصدمة، لكنها تمكنت من الاتصال بأقاربها هاتفيا بعد عدة أيام، من خلال رقم كتب على صورة أحد افراد الأسرة. بدت مرتبكة للوهلة الأولى، لكنها أخبرتهم في النهاية برغبتها بالعيش معهم. 
وقبل ترحيلها الى هندوراس، أيدت والدتها رغبتها بالعيش مع أقاربها داخل أميركا، فهم من تولى تربيتها.
 
العودة للديار
تم ترحيل البنت الى هندوراس خلال حزيران الماضي، ووضعت في مقر احتجاز للأطفال العائدين الى البلاد، حيث تم حجرها بسبب جائحة كورونا. في نهاية المطاف، وصلت الى أمها. لكنها ومن خلال اتصال هاتفي، تحدثت عن تعرّضها للضرب من قبل والدتها، ولا تملك ملابس لائقة ولا طعاما كافيا يشبعها، ليقوم أهل المنطقة، الذين شاهدوها تبحث عن الطعام في أكوام القمامة، باعطائها ملابس وحذاء، حسب قولها.
وبالالتقاء مع والدتها، أقرّت بضربها بسبب قلة أدبها وفضاضة اسلوبها، لكنها أشارت أيضا الى إيذاء البنت لنفسها، بضرب رأسها وجسدها بالجدران، ونفت الأم مطلقا علمها بوجود إعاقة ذهنية لبنتها، وهي تجد صعوبة في السيطرة عليها. وتقول البنت انها التقت بشخص عمره 22 سنة يقيم في قرية مجاورة، ويريد الزواج منها. 
وكانت أمها قد رمت الأدوية التي جلبتها ابنتها من أميركا، والتي كانت تتناولها منذ سنوات، بسبب انتهاء مفعولها، وقالت البنت إنها قررت ترك تناول الأدوية.
اشتاقت البنت الى لم الشمل مع أسرتها في كارولاينا الشمالية، حسب قولها، وتتذكر ما قاله موظفو مركز اللجوء عن عدم توفر ما يكفي من غرف وطعام وموارد للاعتناء بها. لكن، كانت الأسرة تتأهب وتنتظر لسنوات عودتها اليهم؛ وتؤكد بإصرار على عدم رغبتها بالعودة الى الملاذ: "هناك، لا يسمح لك بصداقة الأولاد، أو معانقتهم، أو كتابة رسالة، ولا يسعك مشاركة الآخرين بالملابس أو حتى المشط أو الصابون. لا شيء من هذا 
القبيل".
وبعد ما يقارب من سبع سنوات داخل وخارج النظام التعليمي لنظام الملاذات، تكافح الفتاة للتكلّم بلغة انكليزية بسيطة، ولم تتلقى الكثير من التعليم الممنهج خلال الفترة التي يكون فيها الطالب بالمرحلة الثانوية: "الشيء الوحيد الذي علموني إياه كان حروف العلة والابجدية".