متى قررت أميركا «حفظ نظام» العالم؟

بانوراما 2020/12/19
...

إيشان ذرور
ترجمة: خالد قاسم
يقول الرأي التقليدي إن مكانة القوة العظمى فرضت على الولايات المتحدة الأميركية، فوسط انهيار الامبراطوريات الأوروبية والتهديدات العالمية للنازية والستالينية، برزت أميركا عملاقا ليبراليا على المسرح العالمي وغيرت مسار الحرب العالمية الثانية وأعادت بناء النظام الدولي، وهيمنت على المؤسسات الجديدة مثل الأمم المتحدة وفرضت سلطتها طيلة عقود من الزمان عبر تواجد عسكري لا يضاهى بمناطق كثيرة من العالم.
لكن ذلك لم يكن ببساطة مسألة ظرف مصيري. ففي كتابه الجديد “غداً العالم” يرى المؤرخ ستيفن ويرثيم أن التفوق الأميركي كان {قرارا واعيا} اتخذته نخب واشنطن قبل فترة طويلة من الحرب العالمية الثانية. 
نقاشات ذلك العصر مهمة في عصرنا الحالي، مع تزايد عدد الأميركيين الذين يتساءلون عن حاجة بلادهم الى “حفظ نظام” العالم. ويدعي سياسيون من كلا الحزبين سعيهم الى تقليل التشابكات خارجيا واعادة القوات الأميركية الى وطنها.
اندفع “ويرثيم” كثيرا مع ذلك الحوار، وأسهم بتأسيس معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول، وهو مركز دراسات جديد في واشنطن يدعمه رجل الأعمال الليبرالي جورج سوروس والملياردير اليميني تشارلز كوك ويؤيد المركز تقليص دور واشنطن الجيوسياسي والابتعاد عن عشرات السنين من السياسة الخارجية المسلحة.
يقول ويرثيم غن الدولة الأميركية كانت آنذاك صغيرة جدا ومشغولة بأزمة الحرب الفورية، ووجد خلال بحثه شبكة من المسؤولين والمفكرين، الذين كرسوا اهتمامهم للتخطيط لما بعد الحرب قبيل وقوع الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الشهير أواخر العام 1941. وحالما بدأت الحرب في أوروبا، جمع مجلس العلاقات الخارجية نحو 100 خبير لتنفيذ تخطيط ما بعد الحرب لصالح وزارة الخارجية. وكان من بينهم شخصيات معروفة مثل المدير المستقبلي لوكالة المخابرات المركزية ألن دولس وشخصيات متنفذة، لكنها لم تحظ بالاهتمام؛ مثل هاميلتون أرمسترونغ رئيس تحرير مجلة فورن أفيرز، ورجل الأعمال ويتني شيباردسون، الذي حلم بتوحيد العالم الأنكلوفوني. 
 
عالم مستقطب
انتصر مؤيدو هيمنة ما بعد الحرب بسبب الخطر غير المسبوق للقوى الاستبدادية التي حكمت أوروبا وآسيا آنذاك، وبسبب قدرتهم على توصيف الوجود في نصف الكرة الأرضية بأنه عزلة غير مقبولة، وقد جرى ذلك بمساعدة الرئيس روزفلت وإدارته. 
يرى قادة الرأي في الولايات المتحدة اليوم أنه ينبغي على الدولة الأميركية الاختيار بين الانعزالية التي ابتكرها مؤيدو هيمنة ما بعد الحرب وبين المشاركة الدولية القوية، بوصفهما ثنائيا جيوسياسيا حاسمل. ولم تكن الانعزالية تقليدا متعارفا عليه في الولايات المتحدة، أما المعارضون الكثيرون لدخول الحرب العالمية الثانية قبل الهجوم على بيرل هاربر فقد أكدوا أن على بلادهم الدفاع بالقوة عن كل نصف العالم الغربي، وتمنوا المشاركة بالتجارة وأشكال أخرى من التفاعل خارج ذلك النصف. رأى كثيرون منهم أنفسهم “دوليين” لأن الدوليين طمحوا منذ فترة بعيدة بالبقاء خارج نظام سياسة النفوذ المتمركز في 
أوروبا.
حمل هؤلاء الأميركيون لقب “الانعزاليين” وأطلقته عليهم مجموعة جديدة قررت في أعقاب الهجمات النازية أن النظام العالمي يمكن تأمينه فقط عبر القوة المسلحة البارزة، وانتصرت تلك المجموعة وأضفت على نفسها وصف “الدوليين”.
يتبادر للذهن سؤال عن الخطأ في سعي قوة عظمى للهيمنة من أجل الهيمنة ذاتها؟ ويجيب ويرثيم أن الخطأ يكمن بوسيلة اكتساب هذه القوة، ويرى أن السياسة الخارجية الأميركية ينبغي استمدادها من تحليل بحثي لمصالح الشعب الأميركي. فإذا بررت المصالح الأميركية فعلا العرض الكبير للقوة العسكرية، فسينبغي حينذاك على صنّاع القرار العمل وفقا لذلك. غير إن المشكلة هي أن الولايات المتحدة تدمج مصالحها الحيوية مع موقع قوتها في العالم، وهذه الهيمنة العسكرية صارت هي الغاية بحد ذاتها. ومن الواضح أن هذا الموقف كان مؤثرا في افساد الخطط الستراتيجية أيضا، لأنه بدلا من العمل دفاعا عن الولايات المتحدة الأميركية وضمان شروط الرفاهية فيها، اصبح زعماؤها يعملون أولاً وقبل كل شيء للحفاظ على الهيمنة الأميركية عالميا.
يمكن القول إن “السلام الأميركي” في المحيط الهادئ ساعد في النهوض الاقتصادي لعدة دول آسيوية واقعة ضمن المدار الأميركي، وكذلك أوروبا الغربية. ويعتقد ويرثيم أن الهيمنة العسكرية الأميركية كانت نعمة كاملة لتلك المناطق طيلة فترة الحرب الباردة على الأقل، لكن هذا السجل كان أكثر إثارة للمتاعب عندما نبتعد عن العالم الرأسمالي الشمالي.
لاحظ المخططون الأصليون للهيمنة العسكرية بين العامين 1940 و1941 أن العولمة المسلحة تتضمن نوعا من الحرب بلا نهاية، حيث مات الملايين من الناس في النصف الجنوبي من العالم نتيجة حروب أميركية بالوكالة تحت اسم محاربة الشيوعية. وبعد ثلاثة عقود من انهيار قوة دولة الاتحاد السوفيتي، استغلت الولايات المتحدة الأميركية قوتها العسكرية أكثر بكثير مما فعلته خلال الحرب الباردة.