بعد رحيل القوات الأميركية من افغانستان.. هل ستنتهي زخارف الغرب؟

بانوراما 2020/12/22
...

ديفيد س. كلاود وستيفاني غلينيسكي

ترجمة: مي اسماعيل 

يقف شباب أفغانستان على مفترق طرق يجعل تفاصيل حياتهم كما رسموها عند أصعب المراحل، منذ أن غزت القوات الاميركية بلادهم قبل نحو عقدين، جلب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة بعضا من زخارف الغرب والقليل من حريته الموعودة؛ لكن العديد من الأفغان باتوا يتخوفون من تبخر تلك المكاسب. 

إنهم جيل ليس ضائعا بقدر ما هو عالق بين قوى متصارعة؛ فشبابه يعيش قرب القبور الجديدة وأصداء المعارك وأسواق مزقتها قنابل الانتحاريين، أرضهم لم تُقهر؛ أمة أقلمتهم للصعاب وجعلتهم يأملون أن تتعايش حركة طالبان والحكومة بسلام بعد أن تطوي القوات الاميركية راياتها وتحمل أسلحتها وترحل. 
ولد الطالب الجامعي "جواد سيزدة" (22 سنة) خلال زمن الاحتلال، وعاش قلقا من القادم. يجمع جواد شعره خلف رأسه، ويغني "الراب" مع زملائه (في استوديو بسيط بالطابق الثاني لأحد المباني) وهم يدخنون الحشيش ويحتسون الشاي ويؤلفون أغانيهم بالشعر الحر عن مستقبل افغانستان الداكن، لكن حياتهم التي صنعوها منذ نحو عقدين إبان الغزو الاميركي باتت في خطر أكثر من أي وقت مضى، تبدأ أحدث أغانيهم المنشورة على يوتيوب (وهي صرخة مؤلمة تنادي بالتسامح) بصور جوية لأسواق المدينة المكتظة ومساجدها، وتقدم رسالة لمقاتلي طالبان الباحثين عن اعادة القوانين الدينية المتشددة، التي لن تترك سوى القليل من المساحة لممارسة الفنون، تقول كلمات الاغنية ذات اللحن الحزين: "أتوق إلى السلام والتعاطف وأمة تقف مع ثورتي، لقد مات الكثير منّا بسبب ما لدينا الآن". 
فقد قتل العديد من أصدقاء جواد أثناء هجمات مسلحة على جامعة كابول وتفجيرات "داعش"  قرب مركز جامعي. 
 
"ما الذي سيجري لانجازاتنا؟"
لقد سقط نحو ستة آلاف مدني أفغاني؛ من الشباب والشيبة، والمدنيين والقرويين، بين قتيل وجريح، خلال هذا العام، أي أقل بنحو ثلاثين بالمئة من سنة 2019، وفقا لتقارير الأمم المتحدة؛ لكن هذا النمط ليس من المرجح استمراره، لم تبدُ عودة مقاتلي حركة طالبان؛ الذين حكموا كابول وأغلب أجزاء البلد خلال سنوات 1996 - 2001، أقرب مما هي عليه الآن، فالهجمات والاغتيالات تتصاعد، وتبدو محادثات السلام بين المتمردين والحكومة الافغانية متعثرة، ومن المقرر أن تغادر القوات الاميركية، التي تناقصت أعدادها الى أقل من خمسة آلاف جندي مؤخرا، نهائيا بحلول أيار من العام المقبل، من دون أن تهزم طالبان فعليا، وقد أنفقت واشنطن مليارات الدولارات وخسرت حياة نحو 2400 أميركي ضمن محاولاتها لتحطيم قدرات التنظيم، يصر العديد من الشباب على البقاء والقتال، آملين ان يمنعوا طالبان (اذا عادت) من السيطرة على عاصمة باتت الآن تسمح للفتيات بارتياد قاعات الدرس وتمتلك صحافة حرة نسبيا، لكن آخرين غيرهم أقل ثقة؛ إذ يحزمون حقائبهم للرحيل. تقول "خورشهيد محمدي" (16 سنة، لاعبة بالمنتخب الافغاني لكرة قدم السيدات ذي العشرة أعوام): "ما الذي سيجري لانجازاتنا؟ قد لا نتمكن من العمل وسيكون علينا ثانية ارتداء البراقع من الرأس الى القدم، التي اجبرت طالبان النساء على ارتدائهن في العلن". 
اعترفت طالبان بنقاط الضعف الماضية، ويقول قادتهم اليوم أنهم ليسوا كما كانوا سابقا؛ لكن العديد من الشباب الافغان يبقون متشككين من أن المتشددين الذين قطعوا أيدي اللصوص وفجروا تماثيل بوذا الأثرية ومنحوا المأوى لأسامة بن لادن سوف يغيرون مسارهم القاسي المتطرف. 
تقول "شهرزاد أكبر"؛ رئيسة لجنة حقوق الإنسان المستقلة في أفغانستان: "خلال السنوات العشرين الماضية كان الناس يطمحون إلى حياة مختلفة تمامًا؛ لكن طالبان منفصلة عن ذلك الواقع. 
انهم متشددون في فهمهم للصواب والخطأ، مؤمنون بأن الله أعطاهم الحق لفرض فهمهم للدين على الجميع". 
 
آراء متباينة
 لا يشاطر البعض شهرزاد آراءها؛ فبينما شهد كثيرون (خاصة في المناطق الحضرية) بعض التقدم، اتخذت حياة آخرين غيرهم منعطفات نحو الأسوأ. 
يقول "صفي الله سنجري" (22 سنة) أن قريته في اقيلم نانغرهر تحولت الى أنقاض: "هدمت الغارات الجوية الاميركية أغلب المنازل"، وهذا ما قاده لحمل السلاح منذ أربع سنوات عندما انضم لطالبان لكي يقاتل "الغزاة الأجانب". يمضي قائلا: "هذا كفاحنا لقتالهم، والآن لا خيار لهم (الاميركان) سوى الجلوس الى طاولة التفاوض معنا، والجميع يعرف أننا ربحنا هذه الحرب". 
نشأ صفي الله سنجري وسط التلال الرمادية شرق أفغانستان، في قرية مبينة بالطابوق الطيني، محاطة بالمزارع وحقول القنب. ولكونه طفلا ينتمي لحقبة الصراع؛ لم يعش سنجري ظروفا تجعل حياته أفضل؛ رغم عقود من المساعدات الدولية الهادفة لتوسيع خدمات حكومة كابول 
الى المناطق الريفية. 
وانتهى تعليمه بعد المرحلة الابتدائية.. يعترف قائلا: "الاستثمار الاجنبي ضروري بالطبع لتقدم البلد؛ لكنه لا ينبغي أن يكون بصيغة دبابات ومدافع، فلم أشهد سوى القتال، ولم أر امكانيات للتعليم والعمل". لا يتقاضى سنجري راتبا من طالبان؛ لكنه يلتزم بمساعدتهم لكي تتمكن من الحكم. أخذته العملية الاخيرة الى منطقة خوجياني القريبة؛ حيث هاجم موقعا للجيش الافغاني، ولم يعرف ما اذا كان قد قتل أحدا.. يهز كتفيه بلا مبالاة قائلا: "ربما.. قد تكون بعض طلقاتي أصابت جنودا". 
 يعيش سنجري (الاعزب الملتزم دينيا) على بعد نحو ثلاث ساعات بالسيارة عن العاصمة كابول، لكنه لم يزرها مطلقا. وهو يشترك بشعور واحد مع ابناء جيله على امتداد افغانستان: "الجميع يريد السلام، ولا نريد الاستمرار في القتال". 
أما "ثريا شاهدي" فتعيش حياة مختلفة تماما عن سنجري؛ لكنها تحمل الامنية ذاتها. لدى ثريا (عمرها 27 عاما) ابن في التاسعة من عمره، وهي واحدة من فنانات الوشم القلائل في كابول. وتتعامل مع نحو ثلاثين زبونا وزبونة منذ أن افتتحت عملها قبل سنتين. انبهرت ثريا، ذلت الجسم الضئيل والمظهر الأنيق، بفن الوشم بعد أن اقنعها الاصدقاء برسم وشم على ذراعها، مع أنه تصميم لا يعني لها شيئا؛ لكن الأمر راق لها من حيث رغبتها باختبار الحدود. ومن خلال زينتها الشخصية وأقراطها الفضية، يمكن القول إنها امرأة من النمط الذي يحّير ويغضب طالبان. ولدت شاهدي في ايران، حيث فرت أسرتها سنة 1990 هربا من الحرب الاهلية، وعادت معهم الى كابول سنة 2002 أملا بأن تكون المدينة أكثر أمنا بعد الغزو 
الأميركي. 
أنشأت شاهدي لنفسها خلال عقدين من الزمن، وببطء، حياة غير تقليدية، وقد طلقت زوجها بسبب كثرة اساءته إليها، رغم تخوف أسرتها من أن يجلب لهم ذلك الامر العار. تلقت شاهدي دروسا عن الوشم في ايران ثم تركيا، وأصبح تلك مهنة ثانوية لها بعد افتتاحها صالون تجميل مع شقيقتيها، وانتشرت أخبار عملها على الانترنت وباتت معروفة. لكن الشهرة جلبت المضايقات لها؛ فتعرضت لاعتداء بالضرب من رجال يرون أن الدين يمنع مهنتها، وانتقدها رجل دين على التلفاز. 
واصلت شاهدي عملها باصرار؛ لكن الانسحاب المرتقب للقوات الاميركية (ما لم يغير الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن المسار) أجبرها على دراسة خياراتها المستقبلية اذا عادت طالبان الى كابول. غير أن حتى المتمتعين بالحرية بعيدا عن كابول باتوا يخشون تشدد طالبان. 
 
تخطيط للرحيل
ولدت "حفيظة فاروق" بعد هجمات 11 أيلول بقليل، قبل أيام من الغزو الاميركي لمنطقتها قندهار أواخر العام 2001. واستمرت أسرتها بالترحال هربا من القصف الجوي والتقاتل بالمناطق المجاورة، حتى استقرت في مركز مدينة قندهار؛ وهي مدينة خطرة رغم دوريات القوات الافغانية والاجنبية التي تجوب الشوارع. ومع ذلك كان بإمكان فتيات مثل "حفيظة" الالتحاق بالمدارس، وقد دفعها والداها للدرس بقوة، ودعما تطلعها للدراسة في الجامعة يوما ما. لكنها، بعد تخرجها من الدراسة الاعدادية سنة 2018، وضعت طموحاتها الجامعية جانبا وافتتحت مدرسة ابتدائية في حجرة استقبال أسرتها. وتصاعد الاقبال عليها فاضطرت للانتقال الى منزل مستأجر تحيطه اسوار، وأدخلت وزارة التعليم المعلمين الستة عشر لاحقا ضمن قائمة الرواتب الحكومية. تضم المدرسة الآن نحو أربعمئة تلميذ غالبيتهم من الفتيات؛ اللواتي تفضل أسرهن المحافظة أن يتعلمن الرياضيات والعلوم والكتابة الى جانب التعليم الديني. 
لكن حفيظة تعتقد أنه حتى المدارس ذات التعليم الديني تشكل هدفا: "اذا عادت طالبان قد يعني الامر أن النساء، المتعلمات والاميات، سيوضعن ثانية وراء الابواب المغلقة".. وستكون تكلفة البقاء أكثر من اللازم بالنسبة للبعض.
يرغب "محمد حيدر" (22 سنة) صائغ المجوهرات في كابول بالرحيل الى الولايات المتحدة او كندا، أو أي مكان آخر يستطيع فيه كسب العيش من بيع الأقراط مصنوعة يدوياً من الفضة وقلادات حجر اللازورد. 
تدرب حيدر على حرفته لدى منظمة غير حكومية بريطانية التمويل، وكسب مع والديه نحو ثلاثين ألف دولار بين سنوات 2016- 2019 من مبيعات المجوهرات؛ غالبا لموظفي الاغاثة والدبلوماسيين في العاصمة. لكن زبائن محله الصغير تناقصوا بشدة، مع انتشار جائحة كورونا ورحيل الموظفين غير الافغان عن البلد. حاول حيدر الذهاب إلى مركز كلبهار التجاري في كابول، بحثا عن وسطاء يعرضون الحصول على تأشيرة مغادرة. دفع أربعة آلاف دولار وسلم جواز سفره لأحدهم ممن وعده باستحصال تأشيرة الى تركيا؛ لكن الصفقة فشلت بعدما اغلقت الاخيرة خدماتها القنصلية مؤقتا وألغيت الرحلات بسبب الجائحة. 
يقول حيدر أن التأشيرة الكندية تكلف نحو أربعين ألف دولار؛ وهو ما يفوق قدرته على الدفع؛ وقد تكون مزورة على كل حال! ويستطرد: "أخاف أن اتعرض للقتل يوما ما وأنا ذاهب الى العمل". 
هذا ما جرى لعشرات آلاف الافغان؛ فالهجمات والاغتيالات تقع باستمرار، غالبا ضد شباب يحاولون تغيير بلدهم. وهذا ما وقع لفاطمة خليل (24 سنة) في حزيران الماضي؛ التي قتلت بانفجار قنبلة تحت سيارتها. نشأت فاطمة في كابول، بعدما عادت مع أسرتها من مخيم لجوء في باكستان بعد الغزو الاميركي. وبعدما نالت شهادة من الجامعة الأميركية بآسيا الوسطى في قيرغيزستان، عملت لدى مفوضية حقوق الانسان المستقلة في افغانستان. تقول والدتها "حليمة" (62 سنة) باكية ابنتها وتضاؤل الأمل: "من سيجلب التغيير اذا واصلوا قتل جيل فاطمة؟"