د. رسول محمّد رسول
في عام 1982 نشر الناقد الأميركي جيرالد برنس (Gerald Prince)، الأستاذ في (جامعة بنسليفيا)، كتابه: (علم السَّرد.. الشكل والوظيفة في السَّرد). وكان ذلك قد اقترن بالمحاولات الجنينية لمصطلح ما وراء السَّرد أو ما وراء الحكاية، ويبدو أن برنس كان على اطّلاع على ما كتبه كلّ من جيرار جينيت، وتزفيتان تودوروف، ورولان بارت، ووليم غاس، وتأثّر بالمناخ العام الذي لفَّ النقاش حول ما بعد الحكاية أو ما بعد السَّرد وإن كان في بداياته الأولى، خصوصاً وأن برنس أشار إلى أن بعض "المنظِّرين قدَّم حججاً ناجحة في أن كماً من السَّرد يناقش نفسه جوهرياً، ويؤلِّف، في الواقع، ميتا - سرد". ما يُلاحَظ على برنس أنه دخل إلى الميتا سرد من خلال العلامات (Signs)، ولذلك عنْوَن الفصل الخاص بمناقشته للميتا سرد بـ (العلامات ما وراء السَّردية) ولكن ليس بعيداً عن اللغة، ويبدأ قائلاً: "بما أن مادَّة الخطاب هي اللغة، فإنّنا نقول، في بعض الأحيان، إنّ الخطاب هو ميتا - لغوي أو ما وراء لغوي، وبما أن مادَّة الخطاب هي السَّرد، فإننا نقول إنّ الخطاب هو ما وراء سردي أو ميتا- سردي". ويبدو واضحاً هنا استخدام برنس لمنطق القياس في تخريج المعنى جاعلاً من الخطاب مطيَّة للبادئة (Meta)؛ ففي اللغة يمثل الخطاب ما بعد اللغة، وفي السَّرد يمثل الخطاب ما بعد السَّرد، وبذلك يكون الخطاب هو موئل الماوراء سواء بسواء.
وبما أن الخطابات متعدِّدة، فإنّ أحدها يمكن أن يكون الميتا - سرد كخطاب، ويعرِّفه برنس بأنّه: "المقال الفلسفي عن أنطولوجيا القص، .. وقد تشير حكاية معطاة إلى حكايات أخرى؛ قد تعلِّق على الرُّواة أو المروي لهم أو قد تناقش فعل القص، ومن الواضح تماماً أن سرداً معيّناً قد يشير إلى نفسه ولعناصره تلك عبْرَ ما يشكِّله، وما يتصل به".
القياس
كانت فكرة القياس (Syllogism) قد راقت لذائقة برنس التأويلية، فهو يستعين ببعض مقولات رومان ياكوبسون، ويقول في هذا الصدد: "هناك تعريف آخر لمصطلح ميتا - سرد؛ تعريف أدق، وربما أكثر فائدة؛ ففي وصف شهير عن علم اللغة والشِّعرية، قدَّم رومان ياكوبسون دراسة سريعة للعوامل المشكَّلة في أي فعل للاتصال الشفهي". وما هو معروف أن ياكوبسون كان قد جعل لكل سيرورة لسانية أو لغوية، ولكل فعل تواصلي، شفهي أو غير شفهي، ستة مكوِّنات، هي: الرسالة، والمرسَل إليه، والسياق، والرسالة، والاتصال، والشفرة.
وبعد أن قدّم برنس نماذج من الملفوظات السَّردية الخاصّة بهذه المفاهيم الستة عبْرَ الوظائف المرجعية، والانفعالية، والطبية، والتواصلية، والشِّعرية، توقَّف عند الوظيفة الميتا - لغوية، وملفوظها هو: "السينما تعني السينما"، ويعزِّز شرحه هنا بقوله: "أيُ سرد يمكن أن يكون موصوفاً من حيث عوامل مشابهة، وهكذا، ينبغي أن تتعلَّق أجزاء معينة من السَّرد بالراوي، وموقفه تجاه ما يرويه". ويدلّل على كلامه هذا بملفوظات سردية قصيرة من رواية (أحدب نوتردام)، (1831) للفرنسي فيكتور هوغو (1802 - 1885)، منها: "نسجِّلها بألم، كانت هذه النَّشوة الأولى متخلجة بوقت
قريب".
في ضوء ذلك، تُعد العلامات الميتا - سردية (Metanarrative Signs) عبارة عن شفرات (Codes)، لذلك نجد الكثير من الملفوظات السَّردية تطوي بين أجنحتها شفرات كل واحدة منها علامة ميتا - سردية، وإلى جانب ذلك، "تستطيع العلامات الميتا - سردية أن تسلِّط الضوء على أي مظهر من العلامات المشكلة للسرد، سواء ظهرت - العلامات - على الأغلب في المتن الرئيس للنَّص أو في هوامش الرواية، سواء كانت مُنتجة بشكل ظاهري من طرف الراوي أو الشَّخصية؛ في سلسلة الحوار مثلاً، أو في رسالة ترسلها شخصية إلى شخصية ما، سواء تسبق العلامات التي تشرحها أو تتبعها، سواء كانت مفصَّلة وواضحة أو على العكس عامَّة وغامضة، سواء كانت تشير إلى الوحدات اللغوية أو إلى الوحدات التأويلية أو إلى الوحدات الثقافية، وسواء تُعلِّق على الشكل أو المعنى أو على مدى ملائمة الوحدة المعطاة، فإن العلامات الميتا - سردية قد تحقق وظائف عدَّة".
وظائف تنظيمية وتفسيرية
ومن هذه الوظائف؛ مساهمة "العلامات بإيقاع السَّرد؛ بإبطاء السرعة بشكل منظَّم عندما تقدم أحداثاً جديدة، وأنها قد تعمل كأداة وصف للشخصية التي تصرِّح بالمعنى الرمزي للحدث أو تشرح تعبيراً غربياً تختلف بوضوح عن الشَّخصيات التي لا تنجز أفعالاً مماثلة. وإنها قد تساعد، كذلك، على تعريف الراوي والمروي له خاصَّته والعلاقة بينهما؛ ففي المقام الأول، يمكن أن يسهم التعليقات الميتا - سردية للراوي ونوعها وتركيبها يجعله متعجرفاً أو متواضعاً، خجولاً أو مغروراً، ماكراً أو صادقاً، وهكذا.
وفي المقام الثاني، قد يشكِّل الحضور المجرَّد لتعليقات مثل هذه المعلومات قيمة عن هوية المروي له عينها، وتركِّز، بشكل مطلق، على البُعد المهم للسرد. وتنزع العلامات إلى الميتا - سردية لتكشف كيف ينظر الراوي المفترض إلى المعرفة، وصقل الجمهور الذي يخاطبه.
لكن الوظيفة التنظيمية والتفسيرية أهم من أي شيء؛ تفسّر العلامات الميتا - سردية أجزاء متنوعة من النَّص، وشفرات تؤكِّد عليها، وتحدِّد - هذه العلامات - مجموعة من القواعد والقيود تبعاً لما يوزعه النَّص نفسه، ويصنع المعنى، إنّها تقدم أنموذجاً لفك شفراتها، وتضع برنامجاً لفك شفراتها، وبكلمة أخرى، إنّها تعرض بشكل جزئي كيف فهم نص معطى، كيف ينبغي أن يُفهم، كيف يريد أن يفهم؟؟.
وتساعدنا العلامات الميتا - سردية على فهم السَّرد بطريقة معينة، وتدفعنا أو تحاول أن تدفعنا لفهمها بهذه الطريقة وليس بغيرها؛ إنّها تشكل إجابة النَّص للسؤال: كيف ينبغي أن نفسّره؟ وقد تقودنا العلامات الميتا - سردية، بصورة غير مباشرة، إلى القراءة المقنعة لنص خاص؛ فقد يحدث، وبدلاً من أن تكون عوامل مساعدة للتوضيح، وتصبح إحدى العقبات التي تعترض سبيل الفهم والإدراك.
وتوضح العلامات الميتا - سردية المقدِّمات المنطقية لقابلية الاتصال النَّصية، وأيضاً تساعد على تحديد المسافة بين ميتا - تعليق النَّص، وميتا - تعليق القارئ المفترض. أخيراً، تخبرنا العلامات الميتا - سردية كيف نقرأ".