موت غاريث ويليامز.. واقعة تطالب بإخفاء حقائقها

بانوراما 2020/12/29
...

نورمان بيكر*
ترجمة: بهاء سلمان
مرت عشر سنوات منذ أن عثرت الأجهزة الأمنية البريطانية على جثة غاريث ويليامز، عالم الرياضيات الفذ وهي بحالة عارية ومتعفّنة ومحشورة وسط حقيبة قماش حمراء داخل حمام شقته في العاصمة البريطانية لندن. كان وجهه هامدا، ويداه موضوعتين على صدره بعناية، في مظهر ديني، ووضع مفتاح قفل الحقيبة تحت جثته.
وازدادت أحزان أسرة وأصدقاء الفقيد (البالغ من العمر 31 عاما) لدرجة لا تحتمل مع غياب محيّر للردود عن كيفية وأسباب مقتله. اليوم، وبعد عقد من الزمن، يبقى رأي الشرطة أن الوفاة حصلت كحادث، وأخبرنا بموته وحيدا داخل شقته نتيجة لممارسات جنسية طائشة بمفرده.
تريد السلطات منا الاعتقاد بأن وفاته لا ترتبط بوظيفته لدى مركز تحليلات تابع لمكتب الاتصالات الحكومية البريطانية (وكالة استخبارات وأمن بريطانية– المترجم) في تشيلتنهام، ولا علاقة لها بعمله مع المخابرات البريطانية في لندن، التي أعيرت خدماته إليها. لكن هذه الرواية تبدو ضعيفة، ومع مرور السنين، تراكمت الشكوك.
على سبيل المثال، لماذا حصل تأخير طويل قبل أن "يكتشف" جواسيس المخابرات جثة زميلهم؟ فلربما يعتقد المرء ببقاء الأجهزة الأمنية تتابع بكثب مثل هذا الشخص المهم. ولماذا أعطت المخابرات كل انطباع عن إعاقتها لتحقيقات الشرطة؟ ومن هو المسؤول عن تشويه سمعة ويليامز بمزاعم جنسية صارخة خلال الأسابيع والأشهر التالية للوفاة؟
تساعد هذه الاسئلة على تحديد رواية مختلفة تماما من الأحداث عن تلك التي أرادت الشرطة والمخابرات ترويجها، رواية لا تضع فقط السفاك الروسي في قلب حدث موت غاريث ويليامز، بل تورّط المخابرات في التكتيم الغريب الذي تلا الحادثة. شوهد ويليامز، خبير تحليل الشفرات والمولع بركوب الدراجات الهوائية، آخر مرة حيا يوم الأحد 15 آب 2010. وبعد موته لاحقا، وعند تفحّص حاسوبه الشخصي في شقته بشارع الدرني، ظهر تصفح شخص ما لموقع دراجات عند الساعة الحادية والربع ظهرا من اليوم التالي، وبعدها، لم يكن هناك أي أثر إضافي على نشاطاته.
 
كذب ومراوغة
كان الأمر محيّرا حينها، وفقا للرواية الرسمية للأحداث، فبعد أكثر من اسبوع، صباح يوم الإثنين 23 آب، قبل ظهور المخابرات أخيرا للتحقيق في أمر غيابه، بعد اتصال من شقيقته "سيري" القلقة عليه، فقد كان لديه اجتماع يوم الاثنين 16 آب، واجتماع آخر يوم الجمعة 20 آب، لكنه لم يحضر. بوضوح، لم يقل شيئا، ومع حلول مساء 16 آب، كان الخبير الراحل على موعد مع زميل له لديه اهتمام بشراء شقته. لكن، مرة أخرى يبدو غياب ويليامز وكأنه مر من دون 
تعليق.
هل حقا يمكن تصديق غياب رجل معروف بانضباطه مثل الساعات السويسرية وعدم ضبطه للمنبه؟ أنا أشكك بالأمر؛ وتكلّمت مع عدد من خبراء المخابرات الذين، بلا استثناء، أجمعوا على عدم تصديق غياب الرقابة المفترضة عليه، وأخبرت باتخاذ خطوات خلال ساعة للتحدث إليه أو تعقبه. كانت هذه بالتأكيد نظرة فيونا ويلكوكس الطبيبة الشرعية لويستمنستر، التي تعاملت مع تحقيق بوفاة ويليامز، وقالت إن رواية المخابرات عن الأخير "يبدأ بتوسيع حدود المصداقية". يبدو مؤكدا لي أن غياب ويليامز قد حفز لتحقيق من قبل المخابرات، وذهب الضباط الى شقته، وجوبهوا بدليل مروّع على وفاته. كانت شقته جزءا من نظام الإنذار والامان للمخابرات المرتبط بالقيادة المركزية؛ وأخبرت بوجود أنظمة أمنية أخرى، أيضا، وكان ممكنا لمسؤوليه الانتباه لوقوع أية مشكلة منذ البداية.
لماذا إذن اختارت المخابرات الكذب حيال التأخير؟ ولماذا سمحوا ببقاء الجثة ملقاة في الحمام لمدة إسبوع حتى تدخّلت الشرطة؟ قطعا هناك من أراد اختفاء الدليل. كان الوقت ذروة الصيف، ومع ذلك فقد كانت التدفئة تعمل بكامل طاقتها، متسببة بتحلل الجثة بسرعة، وكان الحمض النووي له يختفي عبر بالوعة الحمام.
 
تبريرات واهية
بعد ذلك، ظهرت سلسلة قصص غير سارة حول حياته الجنسية غير التقليدية المفترضة، من كونه مخنثا وأنه قتل على يد شخص شاذ يعشقه، والعثور على ملابس نسائية من مقاسه، واكتشاف كوكائين وقطع متنوّعة لمعدات تعذيب الذات، والإيحاء بدفعه المال لذكور يمارس معهم الجنس.
من أين أتت هذه الروايات المشوهة للسمعة؟ ليس من الشرطة، كما يبدو، التي نفت بغضب تلك الروايات، فلم يثبت كونه من الشاذين ولا من شرائه لعدة جنسية أو تعاطيه 
للمخدرات. 
وإذا كان هناك حرص شديد لدى المخابرات لإظهار أن وفاة ويليامز شأن جنسي، كانت ظنون الشرطة مختلفة، لاعتقادها ان الواقعة حالة قتل منذ البداية. وعلمت من مصدر مقرّب بعدم تعاون المخابرات مع جهاز الشرطة لدرجة تهديدها بترك القضية، واستلزم الامر عقد اجتماع عالي المستوى بين رئيس المخابرات جون ساويرز مع رئيس جهاز الشرطة باول ستيفنسون، قبل الاتفاق على وسيلة للمضي قدما في التحقيقات.
بعدها، تم توجيه رئيسة فريق التحقيق، المفتش الأقدم جاكي سيبير، بتوظيف ضباط من وحدة مكافحة الإرهاب التابعة للشرطة للتنسيق مع المخابرات. لم يتم تفسير السبب مطلقا، لكن بالنسبة لي فمن الواضح أن تصميم رئيسة الفريق على كشف الحقيقة لم يقابله حماس من فريق مكافحة الارهاب، كما تم حجب دليل حيوي عن تحقيقاتها، ولم يتم السماح لفريق جاكي بالتحدث الى رفاق ويليام في المخابرات، التي عرقلت اجراءات لاحقة كانت ستصب في خدمة التحقيق.
 
شبهة باطلة
وتم العثور على حقيبة قماشية مغلقة، يعتقد باحتوائها على مواد شخصية وأخرى متعلّقة بالعمل، تحت طاولته، ولكن تم ابلاغ كولن هول، وهو ضابط المباحث الذي اكتشفها، بتركها في مكانها. وكتب الطبيب الجنائي في تقريره عن قناعته بمقتل ويليامز على "نحو غير قانوني". أقرّت جاكي بهذا الأمر، وتوصلت بعد التحقيق الى وجود احتمال كبير بتورّط جهة ثالثة بوفاة عميل المخابرات الشاب.
بذلت جهود كبيرة على امكانية دخول ويليامز الى الحقيبة القماشية وغلقها باحكام، ومن ثم وضع المفتاح تحت جثته. وظهر هناك دليل مقنع، على أقل تقدير، بوجود أطراف أخرى ساهمت بمقتل ويليامز، ولم يثبت أي دليل على ممارسته لنشاطات جنسية داخل مساحات مغلقة. وفي تشرين الثاني 2013، أعلنت الشرطة أنها خلصت الى أن وفاة ويليامز "عبارة عن حادث"، وأغلقت القضية على ذلك.
وأعلن مساعد مفوّض الشرطة مارتن هيويت "عدم وجود دليل على ارتباط وفاة ويليامز بشؤون عمله"، مشيرا الى أن اتلاف المخابرات لأية أدلة أمر لا يمكن تصديقه. مع ذلك، أشار التحقيق الى عدم وجود بصمات أصابع وراحة اليد أو أي أثر للحمض النووي للقتيل عند حافة الحمام أو سحّاب الحقيبة أو قفلها. بالتالي، وبعيدا عن إقحام نفسه داخل حقيبة بوضع يصعب على خبراء التهرب من القيود اداؤها، فالاعتقاد ارتفع بمحو جميع الآثار الدالة على دخوله الى الحقيبة بمفرده.
 
أفعال غريبة
تم ابلاغ المحققين برفع البصمات من على الباب الأمامي والأقفال قبل وصول الشرطة، فهل فعلها ويليامز أيضا؟ وهل هو من أطفأ الأنوار داخل الحمام وأغلق الباب؟ وشغل جهاز التدفئة للحد الأقصى بذروة الصيف؟ وهل هو من مسح محتويات هاتفه وأعاده الى وضع المصنع؟ لأنه تم العثور عليه بهذا الحال. 
تم قتل ويليامز، لأسباب انبثقت من عمله الشديد الحساسية في التحقيق بغسيل أموال روسية، فقبل وفاته، كان ينشئ دفاعات كمبيوترية لمؤسسة "مدينة لندن"، وكان على دراية بالكثير من المعاملات المالية غير القانونية. لقد كان شخصا بالغ الأهمية للأمن القومي البريطاني، وتحدث مرارا مع وكالة الأمن القومي الأميركية، وكان زائرا منتظما لمقر قيادتها في ولاية ميريلاند. ما هو الدليل على التورّط الروسي؟ منذ تموز 2010 وصاعدا، بدأ المنشق والعميل المزدوج السابق لجهاز المخابرات السوفيتي بوريس كاربيتشكوف بملاحظة سيارات تحمل لوحات تسجيل تعود للسلك الدبلوماسي الروسي تقف في مرائب قريبة، أو تمر ببطء، من شارع الديرني، حيث تقع شقة ويليامز، الذي قام بتسجيل الأرقام، وكان قلقا على سلامته الشخصية للغاية.
تمت مشاهدة السيارات الروسية في أحيان كثيرة بين السادس والتاسع من تموز، ومرة أخرى بين 12 الى 15 آب، وهو آخر يوم من حياة ويليامز؛ ولم تتم مشاهدتهم مجددا من حينها. 
من منظور العالم الزجاجي هذا، تعد هذه السلوكيات ممارسة نموذجية لمراقبة الأهداف قبل شن ’الضربة‘، لمعرفة متى يغادرون، وأين يذهبون، ومتى يعودون، ومن يحتمل كونه يتجول في المنطقة أيضا.
 
احتمالات قائمة
هل تم ابتزاز ويليامز؟ هناك دليل بسيط على احتمال كونه من المثليين، رغم وصف زملائه له بأنه لا يهتم بالجنس. كون المرء شاذا جنسيا لا يمثل مشكلة للمخابرات البريطانية. أنا أعلم من خلال عملي وزيرا للداخلية البريطانية أن العاملين في المواقع الحساسة يتوقع منهم الكشف عن كل شيء يتعلّق بهم كجزء من عملية التدقيق، بضمنها هوية من يشاركك المضاجعة، وماذا تفعل عندما تكون بهذا الوضع.
بالنسبة للروس، الأمر مختلف، فهم لا يزالون ينظرون للشذوذ الجنسي كنقطة ضعف يمكن استثمارها، وهي مسألة ممكنة يسعون كليا الى فعلها. يقول كاربيتشكوف إن مصادره الروسية أبلغته بوجود عملية روسية تستهدف ويليامز، والتي أطلقت عليها رمزيا عملية "الحبوّب". ووصل الى مسامعي من مصدر موثوق، أنه قبل وفاته بمدة قصيرة، رتب لويليامز جلسة تعاطي مخدرات ليفقد الوعي أثناء تمتعه بعطلة في أميركا. وتم لاحقا ابتداع مشهد فاضح حوله وتصويره. لا أملك الدليل على ذلك، لكنه اسلوب غالبا ما يستخدمه الروس. ومن المحتمل أيضا أن الروس كانوا على دراية بامكانية حيازة مخترق الشفرات وسيلة دخول غير رسمية لشؤون تخص المخابرات البريطانية لا تقع ضمن اختصاص عمله. تحديدا، حصل ويليامز على قائمة الضيوف لمناسبة تقام في لندن يحضرها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلنتون، وتشير التقارير الى أنه فعل ذلك "خدمة لأحد الأصدقاء"، لكن السبب وراء هذا الأمر لم يتم إيضاحه مطلقا. وإذا ما تمت معرفة الأمر من قبل الروس، فهذا بالتأكيد سيخلق أرضية ملائمة للابتزاز.
 
حسابات وأموال
ومن الحقيقي أيضا استلام ويليامز لدفعات مالية غير واضحة الدوافع، ففي الأيام المحصورة بين 11 و15 آب، تم إيداع ثلاث دفعات لحسابه المصرفي، كل دفعة بألفي باوند، وتم سحبها لاحقا بفترة قصيرة. وفي الأيام التي تلت اكتشاف وفاته، تحدثت صحيفة الديلي ميل عن اختفاء 18 ألف باوند من أحد حساباته المصرفية قبل شهرين من رحيله، ولم يتم تعقّب وجهة تلك الأموال. كما تم العثور على حقائب غير مفتوحة في شقته، تحوي على ملابس نسائية فاخرة تقدر أقيامها باكثر من عشرين ألف باوند. ولمحت تقارير صحفية الى أن حسابات ويليامز المصرفية وبطاقات الائتمان الخاصة به قد تم استخدامها خلال الإسبوع الفاصل بين وفاته والاكتشاف الرسمي لجثته في الحمام. إلى أين يقودنا كل هذا الكم من المعلومات؟ لا أعتقد أن غاريث ويليامز لم يكن سوى رجل صالح، مخلص لوطنه، وأعتقد جازما بامكانية حصول عملية ابتزاز من قبل الروس، لكن رد فعله كان ليتضمن ابلاغ رؤوسائه في العمل، فهل يا ترى قاموا بتحفيزه على التواصل باللعبة والتظاهر بوقوعه في حبائل الروس؟
وفقا لكاربيتشكوف، قام رجل أعمال شرق أوروبي بزيارة ويليامز، اسمه المستعار لوكاس، الذي سمح له بالدخول الى شقته؛ وكان لوكاس هناك لابتزاز ويليامز كي يصير عميلا مزدوجا. ومن المحتمل، كما يوحي كاربيتشكوف، انزلاق ويليامز نحو حافة خطر من خلال معرفة شخصية جاسوس روسي بدور مهم داخل أروقة مكاتب الاتصالات الوطنية البريطانية. هذا الرجل، واسمه المستعار اوريون، كان غاية في الأهمية بالنسبة للروس، ولم تكن هناك امكانية للمجازفة بكشفه، لتكون هذه المعلومة بمثابة مذكرة موت ويليامز؛ لكن لنتذكر أن ويليامز كان متخصصا بالرياضيات، وليس عميلا بخبرة ميدانية.
 
عملية منقوصة
ووفقا لكاربيتشكوف، وضع لوكاس مخدرا في كأس نبيذ ويليامز، وبعد فقدانه للوعي، دخل فريق روسي متخصص لانهاء المهمة بواسطة سموم نباتية المصدر، لا تترك أي أثر بعد الموت. وتبدو واقعة وضعه داخل حقيبة تشير الى نية الروس نقله من الشقة، لأجل أن يعد من المفقودين بدلا من تأكيد موته، فهل حصلت لديهم عراقيل؟ أو لربما وصل رجال المخابرات قبل عودة الروس.
الآن، ومع وجود الجثة بين أيديهم، وقعت المخابرات في مشكلة، فهناك أسباب كثيرة تدفع نحو عدم نشر مثل هذه الضربة الروسية الوقحة داخل منطقتها، أو إجابة التساؤلات التي ستثيرها الحالة بشكل محتم. وإذا كان جاسوس الاتصالات الوطنية تحت أنظارهم، فلربما كان سيخلص رجال المخابرات الى أن يفضلوا تأجيل ’العثور‘ على الجثة، ومن ثم تفسير الوفاة على أساس كونها طيش جنسي. هذا كان سيوفر لهم الوقت والفرصة لتحديد هوية العميل الروسي.
على أية حال، لم يدفع غاريث ويليامز حياته فقط، بل سمعته كذلك، مثل أشخاص قبله تعرّضوا لنفس المصير. وتعلم المخابرات البريطانية تماما ما حصل خلال تلك الليلة الرهيبة من شهر آب في شارع الديرني، لكنها تفضّل، لغاية اللحظة، اخفاء ما جرى، لكي تطمس حقيقة أحاطت برجل مخلص وسط بحر من الخيالات الجنسية وتشويه السمعة.
 
* نورمان بيكر عضو سابق بمجلس العموم البريطاني وكان وزيرا للداخلية البريطانية من 2010 لغاية 2014.