هل يمكن أن نعد رواية "أحلام العبوة الرابعة " بمصاف الروايات الحداثوية التي تقوم على ثيمة غريبة كتبت بنفس وخطاب مغاير لما يكتب اليوم من الروايات، ثمّ لماذا هي مختلفة.. وبماذا تختلف؟.. هل هي موضوعة السرطان التي لم يتناولها كاتب عراقي أو حتى عربي، عدا كما أعتقد ـ ابراهيم عبد المجيد ـ
في رواية البوكرية "ادجانيو" التي تناول فيها هذه الموضوعة ولكن بشكل آخر مختلف.. وهل إن تناول موضوعة السرطان كغول ينهش الانسان بالكيفية التي طرحها "أسعد اللامي" أعني بألم كبير تقابله الشراسة في مواجهة هذا الغول غائرا في أدق تفاصيله ومسبباته، فقد أحالنا مباشرة الى موضوعة الفزع، أجل هذه الموضوعة هي التي تجعلني أقول عن الرواية إنّها متفرّدة عن غيرها، ليس كونها صرخة انسانية هائلة ضد مايمكن أن نطلق عليه كلمة ـ الظلم ـ الانساني فحسب، بل هو الفزع وبواباته، التي تشكلت منها مداخل الرواية التي قدمها إلينا عبر فصول.. كل هذا عبر حوار بين شخصيتين رئيسيتين ـ
وهذه ميزة تحسب للكاتب لأنّ هكذا تقنية تتطلب لغة عالية وقدرة على اطفاء الملل الذي يمكن أن تسببه الحوارات الطويلة.. فكان الفصل الاول الذي ينتهي بطوفان الاحذية، بوابة اولى تقودنا الى أولى بوابات الفزع ـ فالحرمان الذي يعيشه الطفل وعقدة حذاء الباتا الذي يقدم اليه ـ بمِنْيّةْ ـ تشعرهُ بالغصة الاولى، ومن ثم تقوده الى عقدة الهوس بالاحذية إذ يشتري كل شهر زوج حذاء ملوّن ومختلف عن غيره وتتراكم الاحذية حتى تمتلئ بها الغرف، وكنت أود لو أنّه أوغل في هذا المشهد الفانطازي الذي يعد لبنة اولى في بناء الرواية والتي تنتهي بنهاية مأساوية كونه لم يعد يستطيع أن يرتدي الزوجين اللذين يشتريهما بسبب لغم بتر له جزءا من قدمه إبان الحرب التي كانت هي بوابة مشرعة وكبيرة للفزع المؤدي الى رعب السرطان، هذه الحرب تتحوّل فيها حوادث الموتى ودفنهم الى مايشبه الاساطير، حينما يجلب جثمان شقيقه جمال وترفضه الأم كونها تعرف ابنها من علامات خاصة لايعرفها أحد سواها، ويدفن بلا شاهدة ومن ثم تظهر الأم الحقيقية بعد سنة من دفنه ليتم الاستدلال عليه ويبقى جمال بلا جثة ولا شاهدة ولا قبر .. ولا شيء أبلغ في التعبير عن البؤس البشري اكثر من مشاهد الزنازين التي يقاد اليها كريم وكل هذا عبر نشيج يشبه الصراخ يطلقه بوجه قريبته ومن ثم الى حبيبته "يسار" الآتية من المنفى الاوربي، مشاهد الزنزانات ومشاهد التعذيب ومن ثمّ انتهاء مرحلة السجن ليقاد مباشرة الى الجبهة، كلّها مفاتيح تكمل مفاتيح.. رعب يقاد الى رعب.. وحينما يتفلسف البطل كريم امام "يسار" بان التدخين لم يكن السبب الوحيد للسرطان، بل هو سبب عارضي وبسيط ازاء المسببات الاخرى التي اولها الفزع واخرها الفزع.. بوابات النظام وبوابات الحرب وبوابات الكبت الانساني وتكميم الافواه اسباب واسباب، الخوف من الحرب، الخوف من الشظايا.. الخوف على من نحبهم من أن نغادر العالم ونسبب لهم مانسببه من ألم ووجع.. وأضيف الى ماقلت في النهاية، إن وصف أسعد اللامي لموضوعة السرطان هي فلسفة غاية في العمق والدقة.. وإلّا من يستطيع أن يصف أثر وتأثير الجرعة الكيمياوية ويسميها "البلدوزر المرعب الذي يجرف كلّ شيء امامه، بلدوزر بيد سائق غبي" هكذا هي الجرعة الكيمياوية التي يتوجها بانتظار مايمكن أن تهبه اليه "العبوة الرابعة" من راحة إذ تستيقظ ذاكرة محملة ومعبّأة بالحياة والجمال والمحبة.. العبوة التي تحيله الى الطفولة والفتوة والجامعة وأحاديث عن الحب.. عن أحبة فارقهم.. يجد نفسه يستمع في أوج خدر العبوة الرابعة الى محمود درويش وهو يقرأ له قصائد في مديح الظل العاري.. او يستمع الى عبد الحليم في قارئة الفنجان.
"يبحث عن فرح سابق، فرح من
نوع خاص، إنّه لايأبه بالذكرى، لايأبه بالجرح، هي خرائط في متحف الذاكرة، تحيله الى أعراض مرضه الكامن
فيه، وفيه يدمن على الكشف والعشق، عشق الماضي والافراط في
تحويل مفردات الحاضر الى تفاصيل الحب، الذي يقول له انه مريض بالحنين"...
وفي النهاية كنت أود من كريم ويسار، أن يخرجا في جولة منذ بداية اللقاء، أعني منذ بداية الفصل الاول منها، وليس في نهاية الرواية ويلتقيا بمن سمّاهم مجموعة الحالمين اصدقاء قدامى، أفترض هكذا، أن الروائي لو جعل الحوارات الطويلة بينهما تدور في شوارع وازقة بغداد، لاضفت على الرواية الكثير من الحركة والكثير من الجرعة المخففة على القارئ الذي يبقى يحتمل قسوة الصدمة في تفاصيل الفزع التي يوغل بها العزيز
اسعد اللامي بعيدا بعيدا سالكا الطريق نحو اعقد المشاعر الانسانية التي يعجز اكبر الاطباء النفسانيين من بلوغها..