مقبرة تاكسي لندن .. ساحة الأحلام المحطَّمة

بانوراما 2021/01/06
...

 مارك لاندلر 
  ترجمة وإعداد: أنيس الصفار 
تقود سيارتك عبر غابة اكتست أرضها بأوراق الشجر وتمضي مخلفاً وراءك الشارع الساحر في بلدة «إيبنغ» بانكلترا، الواقعة على بعد نحو 20 ميلا شمالي غربي لندن، وعندئذٍ سيصدمك المشهد: سيارات تاكسي لندن السوداء واقفة بالمئات، ملاصقة بعضها لبعض في حقل طيني بمحاذاة خلايا النحل وحظيرة مخصصة لتربية الحمام الزاجل. هذا المشهد نصب ناطق بحجم الخراب الاقتصادي الذي سببته جائحة كورونا،
فسيارات الاجرة تلك كلها قد اعادها سائقوها الى الشركة التي استأجروها منها بعد أن انهار سوق العمل حين دخلت بريطانيا حالة الإغلاق التام في شهر آذار الماضي. تكدَّست سيارات الأجرة المتوقفة عن العمل، وعندما لم يعد لدى الشركة متسع لإيوائها عقدت صفقة مع مزارع في الجوار لحفظ نحو
200 سيارة منها على ارضه الى جانب نحله وحمامه.
يقول «ستيف مكنمارا» سكرتير «اتحاد سائقي التاكسي المجازين» الممثل لما يقارب نصف سائقي الأجرة المجازين في العاصمة البريطانية، الذين يناهز عددهم 21500 سائق: «أنا أسميه حقل الاحلام المحطمة، إنه لأمر فظيع وهو يزداد سوءاً».في مطلع هذا الشهر خرجت انكلترا من الاغلاق الثاني ولكن القيود بقيت نافذة ولا يعلم احد متى سيعود الزحام الى شوارع وسط لندن.
لم تبق عاملة اليوم من سيارات تاكسي لندن سوى خمسها او اقل، كما يقول مكنمارا، وما يكسبه سائقوها من اجور لا يكاد يعادل ربع ما كانوا يحققونه قبل الجائحة. يقدر المعنيون ان نحو 3500 سيارة أجرة قد خرجت من الخدمة منذ شهر حزيران وهي مودعة في ساحات الوقوف والمستودعات والمرائب والحقول المحيطة بالعاصمة.كم من معارك خاضها مكنمارا لأجل سائقي الأجرة بوجه منافسين مثل «اوبر» وغيرها من خدمات الأجرة .. معارك لا تزال ندوبها ظاهرة عليه، ولكن الجائحة شكلت تهديداً وجودياً فاق كل ما عداه. يقول مكنمارا ان على الحكومة تقديم دعم مالي، وإلا خسرت لندن واحدا من أهم رموزها المميزة، رمز يرقى في نظر السائحين الى مستوى الباص الأحمر ذي الطابقين وغرف الهاتف العمومي والشرطي ذي الخوذة المقببة.
 
شوارع خالية
بالنسبة لمن تابعوا وقائع الحرب بين «تاكسي لندن» و»أوبر» لم تكن السيارات السوداء هي الأحق بالتعاطف دائماً في نظرهم. فالخدمة كانت ولا تزال أعلى كلفة، كما ان هذه السيارات بسائقيها الذين غالباً ما يكونون من الرجال الانكليز البيض، تجسد الصورة القديمة البالية عن بريطانيا. في الجانب الآخر تمثل سيارات تحمل على زجاجها ملصق «أوبر» .. سائقو هذه السيارات من المهاجرين المتنوعين عرقياً والمكافحين طلباً للقمة العيش.
بوجود «أوبر» وتعقّد الصورة تداخلت خطوط المعركة واختلطت. لذا عمد سائقو التاكسي التقليدي الى تطوير خدماتهم فأدخلوا نظام الدفع عن طريق الهاتف، وهو تطبيق مشابه لتطبيق «أوبر» يسمح للزبائن بطلب سيارة الأجرة هاتفياً، كما توجهوا الى استخدام السيارات الكهربائية النظيفة بيئياً. يقول مكنمارا: إن 85 الى 90 بالمئة من اسطول سياراتهم كان سيتحول الى السيارة الكهربائية بنهاية العام 2024 لولا الجائحة.
إغلاق بريطانيا أوقع الخراب بهذه التجارة، ولا جدال في ذلك. يتذكر «رايان سبيدنغ»، الذي أمضى تسع سنوات من حياته في قيادة سيارات الأجرة، ذلك اليوم عندما اوصى رئيس الوزراء البريطاني شعبه بأن يلزموا بيوتهم ولا يخرجوا منها.في اليوم التالي قاد سبيدنغ، 44 عاماً، سيارته المرسيدس للأجرة في شوارع لندن ليجدها مدينة أشباح .. واجهات المحال والمقاهي مظلمة وعمارات المكاتب مهجورة ومحطات القطارات خالية. حتى الأماكن التي عادة ما تكون مائجة بالحركة، مثل ميدان بيكادلي وساحة ليستر، كانت مقفرة لا ينقصها سوى رياح تهب وكرات عشب تتدحرج لتكتمل صورة مدينة لا حياة فيها.
يدفع سبيدنغ مبلغ 280 جنيهاً (تعادل 375 دولاراً) أسبوعياً مقابل ايجار سيارته، لذا لم يجد أمامه بداً من إعادة السيارة الى الشركة، ولأنه يعمل لحسابه الخاص استحق معونة الدولة التي تعوضه عن ثلثي دخله المعتاد تقريباً، واضطر سبيدنغ الى الانفاق من مدخراته والاستدانة على حساب بطاقة الاعتماد لسد احتياجات أسرته.
كون سبيدنغ سائقا مجازا معناه أنه قد اجتاز الامتحان المخيف الصعب عن شوارع لندن، الإعداد لذلك الامتحان تطلب منه ثلاث سنوات ونصف السنة. يقول إنه بعد أن أنفق كل تلك السنوات من حياته في مهنة «سائق» لم يعد بمقدوره التفكير بالتحول الى عمل آخر.
 
السيارة الكهربائية
للتعويض عن خسائرهم عمد بعض السائقين، مثل السيدة «ديل فوروود»، 54 عاماً، الى أخذ الركاب للقيام بجولات مشاهدة اضواء الكريسماس في شارع ريجنت. السائحون قليلون ولكن هناك أعدادا من السكان المحليين الذين يبدون راغبين في الخروج والتفسح بعد بقائهم في منازلهم لأسابيع طويلة.
لكن الأمور كانت أخف وطأة على السائقين الذين يملكون سياراتهم الخاصة، مثل «جيم وارد» الذي يتمكن من تحقيق ما معدله أربعة من الزبائن في اليوم ويكسب من ذلك نحو 60 جنيهاً، مقارنة بنحو 150 جنيهاً عندما كانت الاعمال تجري بيسر، لكن امتلاكه سيارة خاصة هون الأمر عليه وخفف عنه النفقات. 
منذ كانون الثاني 2018 اصبح من شروط منح السيارة الجديدة رخصة للسير في لندن ان تكون كهربائية. سعر السيارة الكهربائية الجديدة يقارب الـ 87 ألف دولار، وكثير من السائقين يدفعون هذا الثمن من جيوبهم، الأمر الذي يثقل كواهلهم بتسديد أقساط شهرية
 مرهقة. 
يقول السيد وارد إن الشبان الذين اختاروا ذلك الطريق يجدون انفسهم عاجزين اليوم عن تسديد أقساطهم خلال فترة الوباء.
خارج محطات القطار الغافية أو قرب الفنادق التي خلت من نزلائها يتبادل سائقو سيارات الأجرة قصص الرعب (أحدهم انتظر 22 ساعة ونصف الساعة قرب مطار هيثرو قبل ان يحصل على زبون). أمست لعبتهم محاولة التكهن بما سيأتي. 
قبل أن تضرب الجائحة ضربتها كان «هاورد تايلور»، البالغ من العمر 60 عاماً أمضى 33 منها سائق سيارة أجرة، يفكر في بيع سيارته التي امتلكها لمدة ثلاث سنوات، ولكنه الان يعتقد انه سيخسر ثلث قيمتها على أقل تقدير إذا باعها لأن المهنة نفسها لم تعد مشروعاً حيوياً مبشراً بالأمل.