الخوف الذي بثته شركة بلاك ووتر في العراق

بانوراما 2021/01/13
...

ألايجا ماغنير
ترجمة: شيماء ميران
كانت أول مرة أرى فيها عناصر الأمن المتعاقدين مع شركة (بلاك ووتر) أثناء تأدية عملهم في أحد صباحات العام 2005  بشارع المنصور وسط العاصمة بغداد، إذ ترجل من المركبة المتجهة شمالا والمتوقفة عند منتصف الجسر مسلحون مدججون بالسلاح، وأغلقوا حركة المرور بتوجيه أسلحتهم على المارة ونحو جميع الاتجاهات ومن بينهم أنا، ونقلوا على ما يبدو شخصية مهمة كانوا يقومون بتأمين حمايتها 
على الأرجح.
ثم قفزوا إلى مركبة أخرى ذات نوافذ مظللة وتوجهوا جنوبا بالاتجاه المعاكس. وما بين ترجل عناصر الأمن من المركبة الأولى وركوبهم الثانية، تجمّد كل من كان في الشارع متوقعين أن يبدأ الرصاص بالتطاير في أي لحظة نظرا لسلوك المسلحين العدواني والتهديدي، لدرجة أن السائق الخاص بي انحرف عن مساره ونسي أن يضغط على الفرامل، ما أدى إلى انسياب سيارته واصطدامها بالتي أمامها.
في الوقت الذي كان تواجد المتعاقدين مع شركة (بلاك ووتر) مرتبطا بالإدارة الاميركية مباشرة، كانت سلطة الائتلاف المؤقتة تُدير حكم العراق منذ غزو العام
2003.
ونظرا لأن الطرق السريعة أصبحت أكثر خطورة على نحو متزايد بالنسبة لقوات التحالف بسبب الهجمات المسلحة التي تتعرض لها، لم يكن غريبا رؤية سيارة الهمفي الأميركية وهي تفتح النار على السيارات المدنية، بصرف النظر عن قوانين الاشتباك الأميركية التي كان من المستحيل أن تلتزم بها عمليا. 
والواقع أن آخر سيارة همفي لأي رتل أميركي كانت تحمل علامة تطلب من جميع السيارات البقاء على بعد لا يقل عن مئة متر، وكان من المستحيل غالبا قراءة اللوحة من على بعد ساحة كرة قدم تقريبا، ما عرّض المدنين طبعا إلى اطلاق نار مميت.
تحمل مواجهة الرتل الأميركي على طرق بغداد السريعة المتجهة جنوبا وشمالا تحديات صعبة ومختلفة. ولأن الأرتال الأميركية تسير بمعدل سرعة ثابتة حتى وان كانت على الطريق السريع، ولا تسمح للسيارات الأخرى بإجتيازها، فان العراقيين وجدوا حلا محفوفا بالمخاطر ألا وهو السياقة على الجانب الآخر للطريق مجازفين بخطر كبير للاصطدام بالسيارات القادمة من الاتجاه الآخر. والأسوأ حين يكون هناك رتل آخر قادم في الاتجاه المعاكس، ففي تلك اللحظة، يتجمد جميع السوّاق ويرفعون أيديهم في الهواء، خوفا من أن يتم رميهم 
بالرصاص.
 
حلّ الجيش 
كان خطر القتل الخطأ مرتفعا جدا، ولعدة أسباب، خلال السنوات السبع الأولى من الاحتلال الأميركي، ففي العام 2007 فتح عناصر أمن متعاقدون مع شركة بلاك ووتر النار على المدنيين لدى مرورهم بساحة النسور، ليقتلوا 17 مدنيا ويجرحوا 24 آخرين. وبعد سنوات على المحاكمة، اُدين أربعة مرتزقة أميركان في العام 2014 وأرسلوا إلى السجن، وهكذا أغلق الملف حتى عفا الرئيس الأميركي دونالد ترامب عنهم مؤخرا. 
لكن مجزرة 2007 حتى لم تكن بداية الاستخفاف بحياة العراقيين. ففي العام 1996، ردت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة (مادلين أولبرايت) على موت نصف مليون طفل عراقي نتيجة لتأثير أكثر من خمس سنوات من العقوبات الأميركية على البلاد بقولها: “الثمن يستحق ذلك العدد”. لقد ترك غزو العام 2003 وما تلاه من الأحداث مئات الآلاف من الجرحى والقتلى العراقيين. وفي عام 2004، أكدت الصور من داخل سجن أبو غريب الذي كانت تديره الولايات المتحدة “الانتهاكات الإجرامية والسادية” التي ارتكبها جنود ومتعاقدون أميركان ضد السجناء العراقيين.
وفي العام 2010، أظهر فيديو أميركي سري هجوم طائرة أباتشي وهي تقتل مجموعة من المدنيين العراقيين، بضمنهم شخصان من ملاك لوكالة رويترز.
علاوة على ذلك، قام بول بريمر، مندوب واشنطن، خلال السنة الأولى من الاحتلال الأميركي بحلّ الجيش العراقي، تاركا 400 ألف عاطل بلا موارد مالية. وفي النهاية انضم الكثير منهم إلى تنظيم القاعدة في العراق، (التي تحولت إلى مجاميع داعش الإرهابية). وفي العام 2009، أغلقت واشنطن “معسكر بوكا”، وهو مركز احتجاز أميركي أصبح ما يشبه (جامعة جهادية). ومن هذا المكان جند القادة الإرهابيون المحتجزين لمحاربة العراقيين وإرهابهم، ليكتسح العنف مساحات واسعة من البلاد ومنها ست مدن كبرى، مخلّفة ما لا يقل عن 20 ألف قتيل وملايين اللاجئين بين العامين 2014 و2017. 
 
عفو مثير للغضب
لم تكن هناك محاسبة أو مساءلة عن تلك الإصابات، سواء كانت بسبب الجنود الأميركان والمتعاقدين وقوات التحالف الأميركية مباشرة، أو بصورة غير مباشرة من خلال سلسلة الأحداث العنيفة. ويمكن للمرء أن يلقي بجزء من اللوم على افتقار واشنطن إلى المعرفة او احترام الثقافة العراقية، وعدم وجود خطة قابلة للتطبيق لما بعد الاحتلال، أو الثقل الذي يُلقى على السياسات المحلية حول مستقبل بلد تزعم الولايات المتحدة بأنها حررته ذات يوم.
ولم يكن مفاجئا لأي أحد بأن يكون رد العراقيين على العفو، الذي أصدره ترامب بالسخرية والغضب، فهم يعلمون أن حياتهم ليست بالرخيصة ويطالبون بالمحاسبة. واليوم هم أقل ميلا للخضوع لهيمنة القوات الأميركية.
في العام 2001، خاطب الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الشعب وسألهم: “لماذا يكرهوننا؟” وكان اعتقاده أن شعوب الشرق الأوسط تكره الديمقراطية والحرية، في حين هذا بالتحديد هو ما يبحث عنه العراقيون؛ متمثلا بالعدالة في ظل الديمقراطية والحرية. فالحرية للعيش ولملاحقة المجرمين المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبوها.
بعد اغتيال قائد الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، والجنرال الإيراني قاسم سليماني مطلع العام الماضي، شرّع البرلمان العراقي قانونا مُلزما يفرض على الولايات المتحدة مغادرة جميع قواتها من البلاد. ومن المفترض أن 2500 جندي أميركي سيكونون موجودين في العراق بعد كانون الثاني الحالي. 
ومع أن حادثة ساحة النسور كانت قد وقعت قبل 13 عاما، لكن طلاق سراح عناصر أمن شركة (بلاك ووتر) من السجن فتح جراح أسر أولئك الضحايا، وأعاد للذاكرة لحظات الإهانة والألم التي عانى منها العراقيون الأبرياء في ذلك الوقت. كنت هناك، وشاهدتها في الواقع. وإذا حدث شيء، فإن عفو ترامب سيقوي من عزيمة العراقيين في رؤية مغادرة آخر أميركي منهم.
 
عن ريسبونسيبل ستايتكرافت