وحشة العريف

ثقافة 2019/01/29
...

حسن السلمان 
على أحرِّ من الجمر، كنتُ أنتظر عودة العريف مشاة محمد نشمي من معسكره القريب من محلتنا. بعد الساعة الثالثة ظهراً، يطل العريف من بداية الزقاق ببزته العسكرية، حيث البنطلون الكاكي القصير الذي يعلو ركبته، والقميص  المطرز ردنه بالخيوط السود الثلاثة، والسدارة المائلة إلى جهة اليمين من رأسه الكبير، و(اللابـﭼين)* الأسود الذي يعلوه الباندج الأبيض، تتأرجح من إحدى يديه عصا التبختر الخيزران، ومن اليد الأخرى يتدلى ذلك الكيس الصغير من الخيش الممتلئ بصمون الجيش الأسمر. 
كان عريف محمد عازفاً للبوق في الفرقة الموسيقية العسكرية، حيث كنا نسمع مابين الحين والآخر قرع الطبول وأصوات الأبواق أيام المسيرات والاستعراضات العسكرية ونحن مانزال في ساعات الصباح الأولى، مستلقين على سطوح البيوت...
في الحقيقة لم يكن يشغلني من عريف محمد سوى ثلاث حاجات، الأولى صمون الجيش الذي كانت تبيعه لنا شقيقته نسيمة اليابسة، التي جاءت تسميتها من نحولها وجفاف بشرتها الصفراء. كانت تبيع لنا الصمونة المصنوعة من الشعير بخمسة فلوس، تلك الصمونة الدائرية السمراء التي كنا نأكلها مع الشاي عصراً في الغالب، وكان طعمها لذيذاً بشكل لايصدق، أما الآن، ولا أدري ما السبب، لم يعد طعم صمون أو خبز الشعير له نفس ذلك المذاق، مذاق صمون الجيش. أما الحاجة الثانية فهي بوقه الكبير الذي عزف به ذات مرة، ولا أعلم ماهي المناسبة: أمام بيته المغلق الباب والشبابيك دائماً، أمسكَ عريف محمد ببوقه وراح يعزف لحناً تركياً كان شائعا ً آنذاك.. تحت بوقه النحاسي رقص الأطفال، واهتزت اكتاف الشباب، وتململت أقدام البنات، وحواليه تجمع بقية المتفرجين. ساعة ينفخ ببوقه، كان يشغلني انتفاخ وبروز عروق عنقه، واحتقان عينيه، وتحول لغديه إلى بالونين عن الاستماع إلى الألحان الجميلة التي كان يعزفها، ويراودني شعورٌ بالخوف من انفجار رأس العريف في أيِّ لحظة كما تنفجر عبوة ناسفة. والحاجة الثالثة كانت رأس الوعل المعلق فوق الباب.. شيء ما كان يجذبني نحو رأس الوعل بقرنيه المقوسين إلى الوراء ونظرة عينيه السوداوين الجميلتين.. كانت نظرة باردة ولكنّها تبعث على الخوف. لا أدري، كنت أشعر بأن الوعل يراقبني حينما أمر من أمام بيت العريف أو عندما اشتري الصمون، إلى درجة ترسّخت في نفسي فكرة بأنّ هذا الوعل ليس محنّطاً. كنت اشعر بأن ثمة روح تطلُّ من عينيه الكحيلتين وتلاحقني.  
كان العريف يعيش مع شقيقته فقط، وكلاهما كانا عازبين. لم نكن نعرف من أين جاءا، وماهي قصتهما، إذ روت نسيمة للجارات أنهما لم يستقرا في مدينة محددة، إذ اينما تتحرك وحدة محمد العسكرية، ينتقلان معها ويستأجران بيتاً قريباً من المعسكر. كانت، على دمامتها وجفاف خلقتها صاحبة مرح ونكتة، إذ وهي تروي قصة انتقالهما المستمر من مدينة إلى مدينة ومن بيت بيت، تقول مكشّرة عن صف أسنانٍ في غاية الصغر تبدو كما لو أنها نابتةٌ في سقف فمها، نحن كالبدو الرّحل، يومياً في مكان... وعندما تشاكسها الجارات بالقول، يانسيمة، عليك التفكير بالزواج قبل أن تستيقظي يوماً ولاتجدي قربك سوى صمون الجيش وبوق العريف، ترد ضاحكة، لن أتزوّج قبل أن يتزوّج العريف..  
ذات يوم طرقت باب بيت العريف لأشتري صمونة، لكن الباب لم يفتح على عجلٍ وتطل من فرجته نسيمة كما كان يحدث عادةً، هذه المرة تأخّر فتح الباب، وبدلاً من خروج نسيمة، وبيدها كيس الصمون، أطلّ العريف وكانت عيناه شديدتا الاحمرار.. نظر في وجهي وقال بصوت حزين، لايوجد صمون لدينا هذا اليوم.. عاودت طرق باب العريف في اليوم التالي، فأمرني غاضباً بعدم طرق الباب ثانية لأنّه لم يعد يجلب صموناً. ثم سمعت أن عريف محمد اعتذر للجيران عن العزف على بوقه بمناسبة ختان أولادهم...
أكلني الفضول لمعرفة عزوف العريف عن العزف وعدم جلبه لصمون الجيش اللذيذ، وشعرت بأن صورة العريف لاتكتمل من دون الصمون والبوق. لايمكن أن يكون هناك شخص اسمه عريف مشاة محمد نشمي، دون أن يكون عازفاً للبوق في الفرقة الموسيقية العسكرية، ويجلب صمون الجيش لتبيعه شقيقته نسيمة اليابسة. لم أتخيل قط، عودة عريف محمد وهو بزيه العسكري، من دون أن يتدلّى من إحدى يديه كيس الصمون...
بقيَ باب بيت العريف مغلقاً، ولم تجدِ تحرياتي نفعاً لمعرفة مايدور خلف باب وشبابيك بيت العريف العتيق... أين ذهبت نسيمة؟ لماذا كفّ العريف عن جلب صمون الجيش وراح يعتذر عن العزف على بوقه الكبير؟، ثم لماذا لم أعد اسمع قرع الطبول وأصوات الأبواق قادمة من المعسكر في صباحات الصيف الجميلة؟
ذات صباح خامل الهواء، نظرت إلى بيت العريف ولم أصدّق عينيّ: كانت شبابيك البيت مفتوحة والباب مشرعاً وقد اختفى رأس الوعل.. أسرعت بدخول البيت وكان مهجوراً، تطبق عليه الوحشة، ولاشيء به سوى فتات صمون الجيش مبعثراً في كل مكان!! وثلاث قطط سوداء تتمطى بتكاسل على سلمه الخشبي...