ثمة صراع معرفي خفي بين النص، والمشروع النقدي الجديد، فقد جرت الأمور، أن يكون للناقد رؤية نقدية معينة، أو كما يسمونها منهجا نقديا، يُعاين في ضوئه النصوص الشعرية والروائية والفنية، كما لو كانت المنهجية النقدية قائمة بذاتها، ولا علاقة لها بالنصوص إلا في حال تناولها نقديًا، فترى فيها ما ينسجم ورؤية الناقد أو ما يخالفها، وهنا تبدأ مفاهيم القيمة والمعيارية والقول التقويمي هذا نص جيد، وهذا نص ينقصه كذا وكذا، هذا هو المعمول به في تاريخ النقد ومدارسه، ولذلك لدينا عشرات الأسماء للمدارس النقدية، وعشرات الأسماء للنصوص الروائية والشعرية والفنية، وقد رؤيت بهذه الطريقة النقدية التقليدية.
مايحدث الآن، هو أن النص لم يعد بمواصفاته البنائية القديمة، لقد جرت تحولات جذرية على بنية النص، الشعري، والروائي، والفني، فلم يعد هو نفسه كما كان قبل نصف قرن، في حين أن الكثير من المناهج النقدية، خاصة الأكاديمية بقيت ضمن حدودها المنهجية الصارمة، تتحكم حتى بوضع النقطة والفارزة ونوعية القوس الذي يحدد المقتبس، والإشارة إلى المرجعيات، وكيفية تنظيم بنية النص النقدي الشكلية وفضائه المقروء؟، والكيفية التي يتلقى القارئ بها النص؟.
هذه المفارقة، لم تعد قائمة إلا في اروقة الدرس الجامعي، ومن يستجيب لها، قد يخرج لاحقًا عنها، ليس بسبب صرامتها، إنما في تضييق الفجوة بين شعرية النص وشعرية النقد. وهو ما نحاول تسليط الضوء عليه في هذه العجالة.
النص النقيض
شخصيًا، أعتبر النص الشعري، الروائي، الفني، نصين هما: النص الأول هو ما يُسمى بهويته الخاصة، هذا نص شعري، وهذه رواية، وهذه قصة قصيرة، وهذا عرض مسرحي، وهذه مسرحية للقراءة، وهذا فيلم سينمائي، وهذه لوحة، وهذا معرض فني، وهذا تمثال...الخ. هذه التسمية قديمة جدًا، ولن تتغير، حتى لو أصبح مفهوم "النص" جامعًا لها، أو مفرقًا بين خصوصياتها. هذا النص يملك ذاته من خلال هويته التي تعين كينونته، لذلك نقول عنه رواية أو قصيدة أو لوحة. النص الثاني، يوجد مضمرًا في النص الأول، وهو النص النقدي، عمليًا لا يمكننا إلا أن النص النقدي في النص المقروء حتى لو لم يعلن عن هويته. فالنص النقدي مبني في النص المعلن، هذا المختفي ليس نصًا مشابها للنص المقروء، إنما هو النص النقدي، بمعنى أن كل إنتاج ثقافي لا يسمى باسم ما لم يكن يتضمن نصًا نقيضًا له. كل نص حديث يحتوي على نصه النقدي النقيض، كما أن كل نص نقدي يحتوي على النص المنقود. قد تبدو هذه النظرية ذاتية، وموضوعية في آن واحد، من أن النص بنية كونية تحتوي جدلها حاملة النقيض في أحشائها، احدهما يغاير النص الآخر، يتم تأويل النص المقروء من خلال الكشف عن النص النقدي المختفي فيه.
لأن أدوات النص النقدي المختفي مغايرة للنص الأول، ولذلك اختفى، أو احتل حيزًا منزويًا لايمكن أن يرى إلّا بادوات نقدية وفلسفية مغايرة للنص المعلن، كما لو كان النص شخصية تستبطن شخصية أخرى مغايرة، لذلك أقول أن النص النقدي جزء من بنية النص الشعري والروائي، ولكن ما يميزه، أن النص النقدي لا يتشابه في حروفه المعرفية مع النص المقروء، ولذك يكون اتجاها نقديا ومعرفيا وفلسفيا، وليست أدواته الإجرائية من جنس النص الشعري أو الروائي.
كل نص يحتوي نقده، وكل نقد موجود ضمنا في كل نص، وما الاختلاف بين المؤلف والناقد هو طريقة تأليف الاثنين، فالشاعر والروائي يجد مادته في الحياة العامة، وفي الأحداث والتاريخ، بينما يجد الناقد مادته في النصوص أولا، ثم فيما يشكل هذه النصوص. هنا، ومن هذه الزاوية، يكون النص بمفهومه الكوني عملة نقدية بوجهين، أحدهما يمثل النص الذي يؤلفه المؤلف، والوجه الثاني للعملة يمثله النص النقدي الذي اضمر في نص المؤلف، كلاهما يشكل محتوى العملة النقدية، أحدهما يطل خلال الباب على العالم الخارجي، وهو النص المؤلف، والثاني يطل على االعالم من خلال مكانية النص الداخلية. وبالقدر الذي يتحرك فيه نص المؤلف إلى دواخل الاشياء ومكوناتها وجذورها، يتحرك النص النقدي منطلقًا إلى خارج النص، ليرى العلاقات التي بنت النص.
هذه رؤية جدلية، لا تحذف اي مكون معرفي، بل العكس رؤية توسع من النص فتجعل منه نصوصًا تقرأ وأخرى تمثل، وثالثة تحاكي، ورابعة تتحول إلى فنون أخرى، وفي العموم لايولد النص النقدي خارج النصوص الإبداعية، ولا تولد النصوص الإبداعية بدون تضمينها بعدًا نقديًا مضمرًا فيها.
بين المؤلف والناقد
قد لا آتي بجديد، عندما أقول إن النص الإبداعي نصان: نص يؤلفه الكاتب، ونص ينتظر الناقد لأن ينقّب عنه ويستخرجه. لأن مثل هذه الثيمة تناولها النقد الحديث كثيرًا، ولكنها لم تطبق في نقدنا العربي، فهي ليست مقولات جاهزة يذهب إليها الناقد ويستجلبها من النص الإبداعي، بل تحتاج إلى آليات إجرائية ومختبرية، تمكن الناقد من التعرف عليها، كل كلمة، وكل جملة، وكل عبارة، وكل فصل، فيها مستويات لاترى بأدوات المستوى الآخر، فأداوت التأليف هي غيرها أدوات النقد. من هنا نضع في هذا التصور ثلاث أدوات إجرائية للتعرف على البنية النقدية المضمرة في النص
الإبداعي.
الأولى، هي الفضاء الذي تسكنه البنية النقدية في النص الإبداعي، وهو غير الفضاء الذي يسكنه النص الابداعي، ففضاء النقد متنحي عن العلنية، ولا يقرأ لذاته، بل لا بد للكشف عنه عبر التغلغل في معرفة شحنات الفضاء المضمرة التي غطت عليها شحنات النص المؤلف. ما تستبطنه أية حكاية يوزاي ما نقرؤه في سطحها.
الثانية، أن الكشف عن فضاءات النقد، يتطلب أدوات نقدية مغايرة لأي أدوات خارجية، الأدوات النقدية تأتي من داخل النص نفسه، وليس من خارجه.
الثالثة، ان الرؤية الاستشرافية للنص الإبداعية أفقية، لأنها بنية زمنية، بينما الرؤية الاستشرافية للنص النقدي عمودية، لأنها بنية مكانية، الأولى تعالج ظاهر الحياة، اما الثانية فتعالج الكيفية التي بنيت بها نصية الحياة.
عموما لايتسع المجال لأمثلة على هذه التصورات الثلاثة للتعرف على النص النقدي المضمر في النص الإبداعي، وقد تكون لنا أكثر من عودة.