جون لو كاريه وسينما الجاسوسية الواقعية

بانوراما 2021/01/17
...

جيل لوليس  
ترجمة: مي اسماعيل 
رحل عن دنيانا، مؤخرا، «جون لو كاريه»؛ الجاسوس الذي تحول الى روائي، والذي عرّفت سردياته الأنيقة المعقدة أفلام الإثارة والتجسس في الحرب الباردة، وجلب الإشادة إلى نوع أدبي طالما تجاهله النقاد، فقد توفى بسن التاسعة الثمانين بعد اصابته بالتهاب رئوي.
فمن خلال رواياته الكلاسيكية مثل «الجاسوس الذي جاء من البرد- The Spy Who Came in from the Cold”، و”سمكري خياط جندي جاسوس-Tinker Tailor Soldier Spy”، و”التلميذ المحترم-The Honourable Schoolboy “ جمع لو كاريه النثر المقفى المقتضب مع نوع من التعقيد المتوقع في الخيال الأدبي، وقد حفلت رواياته بالخيانة والتسويات الاخلاقية ووطأة الثقل النفسي للحياة السرية للجاسوس، كما خلق من الجاسوس اليقظ الهادئ “جورج سمايلي” الذي هو إحدى الشخصيات الأدبية الايقونية في أدب القرن العشرين؛ رجلا نزيها وسط شبكة من الخداع. 
تحدث عنه الروائي “ستيفان كينغ” مؤبناً في تغريدته عبر تويتر: “بوفاة جون لو كاريه غيبت هذه السنة المفزعة عملاقا أدبيا وروحا انسانية”. أما الكاتبة “مارغريت آتوود” فقد قالت: “حزنت لسماع خبر رحيله؛ لقد كانت رواياته عن الجاسوس “سمايلي” مفتاحا لفهم حقبة أواسط القرن العشرين”. 
 
طفولة التناقضات
كان عالم الجاسوسية بالنسبة لهذا الروائي، «استعارة مجازية للحالة الانسانية»، ومضى قائلا (خلال لقاء معه أجري سنة 2008): «أنا لستُ جزءا من البيروقراطية الأدبية إذا أردتم أن تُصنّفوا الجميع: أدب رومانسي أو اثارة أو جاد؛ وإنما أمضي فقط مع ما أريد الكتابة عنه ومع الشخصيات. ولا أُعلن أمام نفسي أنها رواية إثارة أو ترفيه، وأعتقد أن كل هذا شيء سخيف للغاية، فالأمر أكثر سهولة بالنسبة لبائعي الكتب والنقاد؛ لكنني لا أتعامل بهذا التصنيف، أعني: كيف يمكن تصنيف رواية «قصة مدينتين»؟ هل هي من نمط الاثارة؟». 
تشمل باقي أعماله- «أناس سمايلي-Smiley’s People”، و”منزل روسيا-The Russia House”، وفي العام 2017 رواية وداعية لسمايلي- “إرث الجواسيس-A Legacy of Spies”. تحولت العديد من رواياته الى أفلام ومسلسلات؛ وكان أشهرها- “أناس سمايلي” سنة 1965 ثم “سمكري خياط..”؛ التي قام فيها الممثل أليك غينيس بدور سمايلي. مال لو كاري إلى التجسس من خلال نشأته التي كانت تقليدية ظاهريًا ولكنها صاخبة سراً، ولد باسم “ديفيد جون مور كورنويل” بمنطقة “بوول” جنوب غرب انكلترا يوم 19 تشرين الاول سنة 1931، ويبدو أنه نال تعليما قياسيا ضمن الطبقة الوسطى- العليا؛ قبل الانتقال الى مدرسة خاصة ثم سنة لدراسة الادب الألماني بجامعة بيرن، وذهب بعدها لأداء الخدمة العسكرية الاجبارية في النمسا (حيث استجوب المنشقين عن الكتلة الشرقية)؛ وحصل على شهادة في اللغات الحديثة من جامعة أوكسفورد. غير إن تنشئته العادية ظاهريًا كانت مجرد وهم؛ إذ كان والده “روني” رجلا محتالا وشريكا لأفراد العصابات، وقد أمضى زمنا في السجن بتهمة الاحتيال بالتأمين. أما والدته فتركت الاسرة قبل أن يتجاوز هو سن الخامسة، ولم يرها ثانية حتى أصبح شابا في الحادية والعشرين من عمره. عاش طفولة حافلة بالتناقضات وغياب اليقين؛ فيوما ما تراه يركب سيارات الليموزين ويشرب الشمبانيا، لتراه في يوم آخر يواجه الطرد من السكن. وهذا ولّد لديه انعدام الأمن، ووعيا حادا بالفجوة بين المظهر والواقع؛ ليعتاد بعدها على التكتم والسرية التي ستخدمه في مهنته المستقبلية. 
تحدث لو كاريه عن ذلك كله في العام 1996، فقال: “كانت تلك في الواقع تجارب مبكرة جدا في النجاة سرا؛ وكان العالم بأجمعه يبدو أرضا للعدو”. بعد الجامعة (التي قاطع مسيرتها افلاس والده) قام بالتدريس في مدرسة أيتون الداخلية المرموقة قبل الالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وعلى الرغم من انه كان عمله “دبلوماسيا”من الناحية الرسمية، إلا إنه كان في الواقع عميلا “متواضعا” لجهاز المخابرات الداخلية (MI5)؛ وقد بدأ عمله لدى الجهاز منذ دراسته بأوكسفورد. ثم تحول الى جهاز المخابرات الخارجية (MI6)؛ فخدم في ألمانيا التي كانت تمثل (الجبهة الامامية للحرب الباردة) تحت غطاء “السكرتير الثاني للسفارة البريطانية”. كتب لو كاريه رواياته الثلاث الأولى أثناء عمله جاسوسا، وطالبه رؤساؤه بالنشر تحت اسم مستعار، فاستمر يكتب تحت اسم “لو كاريه” طيلة حياته الادبية؛ وقال يوما إنه اختار الاسم (ويعني “المربع” بالفرنسية) لمجرد أنه أحب اسلوب النطق الأوروبي الغامض له. 
 
الجاسوس المثالي
بحلول العام 1961 ظهرت رواية «نداء للموتى- Call For the Dead”، ثم نشر رواية “قتل عالي الجودة- A Murder of Quality” في العام التالي. وظهرت له رواية “الجاسوس الذي جاء من البرد” سنة 1963، وهي عن عميل أُجبر على تنفيذ مهمة أخيرة خطيرة وسط برلين المُقسّمة، وطرحت أحد المواضيع المتكررة في أعماله: ضبابية الخطوط الأخلاقية، التي هي جزء لا يتجزأ من التجسس، وصعوبة تمييز الاخيار عن الاشرار. وعلق الكاتب عليها بأنها كُتبت خلال احدى أحلك مراحل الحرب الباردة، ومباشرة بعد بناء جدار برلين؛ في وقت خشي فيه هو وزملاؤه أن تكون الحرب النووية وشيكة الوقوع. أُشيد بالعمل على الفور باعتباره كلاسيكياً؛ ما أتاح للجاسوس الغامض اعتزال العمل الاستخباري والانهماك في الكتابة بدوام كامل. وجاء وصفه للحياة من خلال عالم “السيرك” (وهو المصطلح الذي أطلقه على دائرة MI6 للاستخبارات البريطانية) الشبيه بالمنتدى والملطخ اخلاقيا ليكون نقيضا لبطل “أيان فليمنغ” اللبق، العميل جيمس بوند؛ ما جعل لو كاريه يحظى باحترام نقدي استعصى على فليمنغ. 
ظهرت شخصية “سمايلي” في روايتي لو كاريه الاوليتين، وفي ثلاثية “سمكري ترزي..”، “التلميذ المحترم” و”أُناس سمايلي”. قال الكاتب إن الشخصية استندت إلى شخص “جون بينغهام”؛ عميل MI5 الذي كتب روايات الاثارة الجاسوسية وشجّع مسيرة لو كاريه الأدبية، وكذلك اعتمدت على المؤرخ الكنسي “فيفيان غرين”؛ قسيس مدرسته وكليته، لاحقا، في أكسفورد؛ والذي وصفه لو كاريه نفسه بأنه “الشخص الذي أصبح عمليا وجهة اعترافي وعرّابي”. 
لامست روايات لو كاريه التي فاقت العشرين الواقعيات الدنيئة لحرفة التجسس؛ لكنه حافظ دوما على وجود نوع من النبل في تلك المهنة. قال إن الجواسيس على أيامه رؤوا أنفسهم “كأشخاص لديهم دعوة كهنوتية لقول الحقيقة”: “لم نحوّرها ((الحقيقة)) أو نقولبها، لقد كنا هناك، حسب اعتقادنا، لنقول الحقيقة لأصحاب القوة”. 
قدمت رواية “جاسوس مثالي A Perfect Spy -”؛ وهي الأكثر طرحا لتوثيق السيرة الذاتية، سردا لتكوين الجاسوس في شخصية “ماغنوس بيم”؛ الصبي الذي حملت سيرة والده المجرم ونشأته المضطربة شبها قويا بنشأة الكاتب ذاته. استمر بالكتابة بلا توقف بعد نهاية الحرب الباردة وتحول الخطوط الأمامية للتجسس. وصف لو كاريه سقوط جدار برلين أواخر سنة 1990 بأنه جاء كصمام اغاثة: “كان حدثا رائعا بالنسبة لي؛ فقد سئمت الكتابة عن الحرب الباردة. وكانت النكتة الرخيصة قول البعض: “يا للمسكين لو كاريه؛ لقد استنفد مادة الكتابة؛ فقد أزالوا جداره تماما..”. ولكن ليس على قصة الجاسوسية إلا أن تحزم حقائبها وترحل الى حيث يوجد الحدث”.
 تبين لاحقا أن هذا يعني كل مكانن حيث جرت أحداث رواية “خياط بنما The Tailor of Panama -” في أميركا الوسطى، وتحولت رواية “البستاني الدائمThe Constant Gardener-” الى فيلم لاقى الشهرة؛ وكان عن مكائد صناعة الأدوية في أفريقيا، وقدمت رواية “رجل مطلوب جدا-A Most Wanted Man” المنشورة سنة 2018 الاداء المتميز والحرب على الارهاب، أما رواية “خائن على ذوقنا-Our Kind of Traitor” والتي نشرت في العام 2010، فقد تحدثت عن نشاط عصابات الجريمة الروسية والمكائد الغامضة للقطاع المالي، وجاءت بعد ذلك أعمال كثيرة، منها مذكرات “نفق الحمائم- The Pigeon Tunnel”، وروايات “حقيقة حساسة-A Delicate Truth”، وأخيرا “عميل يتحرك في الميدان-Agent Running in the Field” المنشورة سنة 2019، والتي أوصلت روايته عن الازدواجية والخداع الى حقبة بريكست ودونالد ترامب. 
 
رفض الجوائر
اقتبست العديد من أعمال لو كاريه لصالح السينما والتلفاز على مر السنين، وأصبحت نتاجات عالية التقييم خلال السنوات الأخيرة. كان من أهمها فيلم « سمكري خياط جندي جاسوس» السينمائي، ومسلسلات التلفاز القصيرة «المدير الليلي» و»عازفة الطبل الصغيرة»، وقد قيل إن لو كاريه رفض تكريما من الملكة إليزابيث الثانية (رغم قبوله ميدالية «غوته» الألمانية سنة 2011)؛ وعلق على رفضه التكريم بالقول بأنه: لم يكن نيل الجوائز الادبية هو هدفه من نشر رواياته.
أصبح لو كاريه في سنواته اللاحقة صوتا منتقدا لحكومة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير وقرارها بالذهاب الى حرب العراق، استنادا الى معلومات استخبارية مختلقة، وانتقد ما أعدّه خيانة لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة. وعلق في سنة 2008: «وُعدتُ بالكثير من التغييرات منذ ان كنتُ في الرابعة عشرة؛ فأنا أذكر حينما أصبح «كليمنت أتلي» رئيسا للوزراء إثر خروج «ونستون تشرشل» بعد الحرب أن ذلك سيكون نهاية الملكية ونظام المدارس الخاصة، كيف كان بإمكاننا انهاء فجوة الفقر التي باتت لدينا في هذا البلد؟ إنه ببساطة أمر لا يصدق». 
رغم امتلاكه منزلا في لندن؛ اعتاد لو كاريه قضاء جُل وقته في منزل آخر عند أقصى الطرف الجنوبي الغربي من بريطانيا، يقع على قمة جرف مطل على البحر، فهو يعبر عن نفسه (كما قال لوكالة أسوشيتد برس) بأنه انساني، لكنه ليس متفائلا: «الانسانية، هذا ما نُعوّل عليه؛ ولو استطعنا فقط رؤية ذلك التعبير في تكويناتنا المؤسساتية، لشعرنا بالأمل حينئذٍ، أعتقد أن الإنسانية ستكون موجودة دائما، لكنني أعتقد أنها ستتعرض للهزيمة
 دائما».