{صحراء التتار» وديناميَّةُ الشك السرديّ
ثقافة
2019/01/30
+A
-A
محمّد صابر عبيد
الرواية عملٌ متعدّدُ الأبعاد والمستويات والطبقات لا يمكن أن يستقرّ على حالٍ واحدةٍ أو رؤيةٍ واحدةٍ أو مصيرٍ واحدٍ، عملٌ متغيّرٌ كتابيّاً وأسلوبيّاً وفلسفيّاً ومزاجيّاً على صعيد اللغة والصنعة والفضاء وطبيعة الحراك السرديّ، وهو ما حدا بالكثير من المشتغلين في حقل نقد الرواية للنظر إلى الرواية بوصفها جنساً أدبيّاً مستقلّاً وليس نوعاً قصصيّاً ينتمي إلى فنّ القصّة، وقد يكون في هذا الرأي الكثير ممّا يمكن مناقشته والسير باتجاه الموافقة عليه وتبنّي أطروحته الأجناسيّة في هذا السبيل، ففي كلّ رواية عظيمة ثمّة قوانين جديدة تُضاف إلى رصيد هذا الفنّ المثير في عالم صارت الرواية فيه الفنّ الكتابيّ الأوّل وديوان
العصر.
رواية (صحراء التتار) لبوتزاتي تعكس حساسيّة الصبر الكتابيّ المذهل في طريقة تشييدِ عمارةِ عملٍ سرديٍّ ينهض على تعبئة المكان وضخّهِ بطاقة وصفيّة هائلة مشدودة شدّاً عنيفاً لا يمكن مقاومته، إنّها رواية تغوصُ في باطنِ الضمير الكتابيّ أشبه بقصيدةٍ ملحميّةٍ تنمو تحت الجلد القرائيّ للمتلقّي لتحفر فيه وجداناً جديداً، ويلتصق إيقاعها بحركة الدم القارئ على نحوٍ يستحيل تفادي الانغمار بها حدّ الوله والانغماس المطلق في تفاصيلها، والزمنُ السرديُّ فيها سائلٌ إلى درجة اللزوجةِ التي تختلطُ بلُعابِ القراءةِ على نحوٍ يضاعفُ الظمأَ ولا يُقصيهِ، فكلماتُ الروايةِ ناتئةٌ شائكةٌ لا تّفضي إلى ما بعدها بسهولةٍ إذ هي تتقصّدُ المكوثَ طويلاً بين فكّي القراءة، ولا تمضي في سبيلَها السرديَّ قبل أن تتركَ أثراً ما في مُحَيّا القارئ.
(حصن باستياني) هذا المكانُ المقفلُ على استثارة الظنّ ومراقبة المجهول يمثّل عالماً قائماً بذاته بديلاً للعالم الوجوديّ فيما عداه، ولاسيّما حين يفرض على قاطنيه نوعاً من لعنة الإدمان واللذّةِ السالبةِ المستلبةِ على البقاء والتلبّث والتجذّرِ فيه خلافاً لكلّ رغبةٍ مُحتملَةٍ أخرى لحياةٍ ناعمةٍ تتحركُ برحابةٍ هناك بعيداً في أمكنةٍ مُحيطةٍ غيرِ متردّدةٍ، مكانٌ مقطوعٌ على حلمِ هجومٍ تتاريّ يتراءى عميقاً في شبكة من الأوهام والأشباح التي تصنعها الرغبة المكتظّة بوجع الانتظار المريب بلا جدوى، وَلَهٌ يابسٌ عنيفٌ يجلدُ ذوات الشخصيّات ويستطيلُ في أنفاسِها الغائمةِ على رتابةٍ ساحقةٍ لا تعرفُ المللَ أو الإذعانَ لصوتِ اليقينِ، تمارسُ حياتَها السرديّةَ الخائبةَ الفائضةَ بأقصى درجاتِ الجدوى التي قد تُكلّفها أرواحَها أحياناً بلا ثمنٍ يُذكَرُ، صلاةٌ أليمةٌ تعبدُ فيها هذه الشخصياتُ الفراغَ المزجّجَ بالصمتِ بأجلِّ ما يُمكنُ من ممارسةٍ للمثولِ العجيبِ أمامَ سطوةِ المكانِ، هذا الحصنُ هو عالم الشخصيّات وعالم الحدث الأوحد الحاوي للرؤية والاحتمال والترقّب المميت.
الضابط (جوفاني دروغو) المشغول في أوّل أمرهِ بحياةٍ محلومٍ بها تتدفّق من شرايينه الشابّة يأتي إلى الحصن ليقيمَ فيه إقامة عسكريّة مؤقّتةٍ لا بدّ منها، كي يعودَ بعدها إلى حياة المدينة الدافئة ويحقّق أحلامَه الورديّةَ الناعمةَ المشتهاةَ، يعاني في الحصن ما يعانيه كلّ ضابط شاب يُحشرُ في مكانٍ عسكريٍّ غيرِ ملائمٍ لتطلّعاته لكنّه يصبرُ مُكرَهاً على أملِ مغادرته في أقرب فرصة، ويبقى هذا الأملُ بمغادرةِ الحصنِ قائماً مهما استطالَ الزمنُ السرديُّ وتعقّدتْ سُبُلُهُ إذ لا بدّ للشخصيّة الروائيّة من تعدّد الأملِ في شاشةِ المصيرِ، أملُ بالعودةِ إلى الحياةِ في تركِ الحصنِ، وأملٌ مضادٌّ بالإقدام نحو حربٍ قادمةٍ كي يصبحَ الوجودُ في المكانِ مُبرّراً في المنظور السرديّ للحادثة الروائيّة.
الزمن السرديّ السائل يظهر على أفضل وجهٍ وسيرةٍ ورؤيةٍ في هذه الرواية حيثُ يخضعُ هذا الزمنُ الناتئُ المتكلّسُ لسرابيّةٍ قاتلةٍ مشفوعةٍ برغبةٍ غامضةٍ لا تلينُ، إذ يضغط المكان على أفقِ الزمن السرديّ ضغطاً هائلاً يجعله نَديّاً تحت عصفِ المكان وهيمنته وجبروته، لذا يبدو أنّ زمنَ الحكايةِ شبه ثابتٍ لا يكادُ يتحرّك إلّا ببطءٍ قاتلٍ تشفعُ له تلك القناعةُ الراسخةُ لدى الشخصيّات المتحلّقة حوله بحراكٍ جهنميٍّ قادمٍ لا محالة، وبين الحلم والانتظار وسيولة الزمن وتصحّر المكان وتبلّد الأشياء تلمعُ بروقُ السردِ على زجاجِ الحكايةِ الأم.
يكتنفُ الروايةَ سحرُ الوهم الساحق لزمن الحكاية من جميع أطرافها، فللوهمِ فيها سلطانٌ يغذّي حبكتَها بديناميّة الشكّ الذي يُحرّضُ على مزيدٍ من الانغماسِ في دوائر الوهمِ التي تتزايد وتتضاعف بلا هوادة، إنّ التشبّثَ بالوهمِ هو المعادلُ السرديُّ للتشبّثُ بالحياةِ المُحاصَرة داخلَ مرجلِ ضيّقٍ اسمه (الحصن).
الوصفُ النابعُ من بطنِ السردِ ومن أطرافه وظلاله وزواياه وتجلّياته المختلفة وهو يتسلّق جدران الحكاية يجتهد لكي يؤسّس حضوراً قاهراً لزجاً يستحيل فكّ شفراته، باستخدام طرقٍ متعدّدةٍ في تقديم الوصف وتطوير بنيته وانفتاح طاقته على السرد والحوار من دون أن يفقد هيمنته عليهما تقريباً، فالعبارة الوصفيّة التي تنحت في الرواية مقولتها المركزيّة في المكان الروائيّ (حصن باستياني) ونصّها: (يوم شبيه بآخر يتكرّر بشكلٍ لا نهائيّ) بهذه الغزارةِ السيميائيّةِ اللافتةِ، تلخّصُ على نحوٍ جذريٍّ المقولةَ الأساسَ في جوهر التشكيل الوصفيِّ الميدانيِّ للحدث الروائيّ (اللاحدث)، حيث تتغلّبُ آليّة الوصف على ما سواها من آليّاتِ سردٍ فاعلةٍ في التشكيل الروائيّ.
أفكارُ الظلام القادمةُ من الأسوار التي بلا حرّاس تتسلّل إلى مسامات المكان وما يحتويه فضاءُ المكان من شخصيّات تتمثّلُ صورةً واحدةً تنطبقُ على الجميع، فكلّ من في الحصن يعيشُ حالةً وجدانيّةً ووجوديّةً واحدةً تتمثّلُ في انتظار مجهولٍ قادمٍ من الشمال يحقّقُ حلمَ الحرب المُنتظَرة، طبعاً لا أحدَ يفكّرُ في عواقبِ الأمورِ حينَ تكونُ هذه الحربُ أمراً واقعاً بل ينحصرُ التفكيرُ فيها بوصفها مُخلّصاً من حالة الرتابةِ والوجودِ الطارئ في المكان، البحثُ عن معنى لهذا الوجود المكانيّ المكتظّ بغموضٍ لزجٍ يستحيلُ تفكيكُ أدواتِهِ وتجلّياتهِ وغيومهِ التي لا تزولُ ولا تمطرُ ولا تخترقُها شمسٌ ما في نهاية
الأمر.
آمالٌ دائمةٌ بقربِ حدوثِ حربٍ مُنتظَرَةٍ حاضرةٍ في فضاءِ المتخيّلِ الحربيّ الأليمِ لسكّانِ الحصنِ وهو ينظرون إلى القادمِ المستحيلِ الذي يأتي ولا يأتي، حيث تتحوّل الحربُ إلى فضاءٍ يتحلّى بالوجدِ المسكوبِ على سفحٍ أجردٍ جافٍّ لا يلينً، على نقيض الوظيفة التقليديّة المعروفة للحربِ حين لا تؤولُ إلّا إلى يأسٍ وخرابٍ وتدميرٍ وموتٍ أكيدٍ، فالحربُ في جوهرها حين يختنقُ صوتُ العقلِ في الحنجرة تُنحّي فرصةَ الأملِ ومعناه كي تستدعيَ فرصَ الموتِ بأبلغِ أشكالها ضراوةً وأكثرها شناعةً وظلاماً، وعلى الرغم من أنّ الحربَ لم تحصل لكنّ خرابَها المحتملَ فيما لو حدثتْ حصلَ وأنهى أسطورةَ الحصن.