الولايات المتحدة تعيش كابوس عراق الحاضر

بانوراما 2021/01/27
...

 كيلي فلاهوس
 ترجمة: بهاء سلمان
ماذا سيكون عليه الحال إذا ما قمت بتحرير بلد ما لم يطلب ذلك، وعندما تطلق العنان لسلسلة عنيفة من أحداث توجد ظروفا أسوأ حتى مما كان عليه سابقا؟ الذين شهدوا العراق في أعقاب الغزو الأميركي سنة 2003، واخفاقات إعادة البناء، وصعود عصابات «داعش» الارهابية وسقوطها يقولون بعدم حاجة أي شخص للتطلّع الى أكثر مما هو حال البلد عليه اليوم للحصول على إجابة وافية، وتشير التقارير الصحفية الى بقاء نحو مليون عراقي، نازحين داخل بلادهم بعد فرارهم من مناطقهم التي استولت عليها عصابات «داعش»  بينما يعيش الكثيرون في مخيّمات تديرها الحكومة وتسعى لإغلاقها قريبا، كما أودت جائحة كورونا بالاقتصاد الهش مسبقا الى الهاوية، مع تلكؤ دفع  الرواتب وتوقف مشاريع التنمية.
وما زالت الحكومة تحاول الوقوف على قدميها، مع مرور أكثر من عام على احتجاجات جماهيرية شهدت صدامات مميتة عبر البلاد، وفقا للخبراء. «كان الأذى على العراق شديدا للغاية،» يقول عباس كاظم، الذي أمضى شبابه في أحد مخيّمات النازحين العراقية خلال تسعينيات القرن الماضي قبل وصوله الى الولايات المتحدة، حيث راقب حرب 2003 وما تلاها عن بعد. حاليا، هو مدير «مبادرة العراق» التابعة للمجلس الأطلسي في واشنطن، ساعيا لإعادة بناء علاقات دبلوماسية وسياسية واسعة مع بغداد. «هذا هو حقا الجزء الذي ينبغي علينا أن نضعه بعين الاعتبار عندما نتحدث عما هو مطلوب لاعادة بنائه، وهناك أمور تحصل في البلاد ستستلزم عقودا من الزمن لإلغائها».
 
مساعٍ طيّبة ولكن!
عمل بيتر فان بورين، موظف لدى الخارجية الأميركية، عاما كاملا في العراق مسؤولا عن فريقين لاعادة بناء البلاد، وكتب لاحقا بشأن البلاد كتاب «أردنا خيرا: كيف ساعدت في خسارة معركة كسب قلوب العراقيين وعقولهم» سنة 2012. ويتحدث غالبا عن اشمئزازه من غطرسة المشروع الأميركي لإعادة صياغة البلاد وفقا لمثالهم، ويتنصّلون عنه، حينما تفشل جهود الحفاظ عليه. «انها جزء من الطريقة الأميركية لصناعة الحروب: دخول غير مرغوب به في بلد من العالم الثالث مع وعود بتحريره، ومن ثم المغادرة وكأن سياستنا الداخلية تحوّل تلك الحرب الى طفل مكروه».
أمضى «ايلايجا ماغنير» سنوات كمراسل حربي في عدة مدن عراقية خلال حرب 2003 وما بعدها، بضمنها بغداد. ووفقا لرأيه، تركت الولايات المتحدة كل شيء خلفها: أشلاء لمئات الآلاف من العراقيين، ومدنا وبلدات مدمرة وبيئة سامة وأرضية خصبة لتجنيد الارهابيين ونزاع طائفي، مع الإفلات من العقاب، ويعلق بأن: «هذه ليست الطريقة الصحيحة، فنحن هنا نتعامل مع البشر، فالولايات المتحدة أزاحت صدام الذي كان طاغية، وأنا ابتهجت لرحيله، لكن التدخل في شؤون دول لم يستعد سكانها لذلك هو أمر خطير، فعندما يكون الناس مستعدين، فسيقومون بإزاحة حكامهم، وبالعكس لن ينجح الأمر».
وبينما تبدو تلك النقطة مهمة لدى باحثي الستراتيجيات العسكرية، الأميركان في السنوات اللاحقة، تعد الدروس المستقاة بعيدة تماما عن كونها عملية في العراق، فهي مؤثرة بشكل عميق ومستمرة الحصول. يقول كاظم، مشيرا الى وجه الخصوص لسنوات ما بعد انسحاب الأميركان عام 2009: «تحمل العراقيون الوزر الثقيل لهذه الحرب، فكانت بقايا القاعدة، والمفترض هزيمتها بسبب عمليات الجيش الأميركي خلال العامين 2007 و2008، تعيد تجميع صفوفها على نحو أكثر دموية وقوة، تحت اسم عصابات «داعش». 
 
اخفاقات عسكرية
ومع استعداد الولايات المتحدة للمغادرة سنة 2009، قال الجنرال راي اوديرنو، قائد القوات الأميركية في العراق آنذاك، إن الجيش العراقي مستعد لفرض الأمن. لكن سنة 2014 شهدت اجتياح عصابات «داعش» لثلث البلاد مثل السرطان، وتراجع الجيش قبل أن يعود للتصدي لتلك العصابة من جديد، بعد تعرض بعض المدن لدمار كامل نتيجة لسيطرة داعش وأثناء عمليات التحرير سنة 2017 من قبل القوات العراقية والحشد الشعبي وبمساعدة القوة الجوية الأميركية. وتعرّضت طوائف دينية بأكملها، مثل الايزيديين شمال العراق، للقتل الجماعي والاختطاف والبيع والرمي بهم من الجبال.
ويشير كاظم الى أنه يتحدث عن مدن لا يمكن سكناها، مثل الموصل التي لا تزال جثث بعض المفقودين تحت أكوام الأنقاض، والعبوات والذخائر غير المنفلقة تبقى منتشرة بين الأحياء السكنية. وكتب المراسل ميزر كامل أواخر العام الماضي، منذهلا من مشهد الموصل، بعد ثلاث سنوات من تحرير المدينة من براثن «داعش». ودخل ذات مرة الى منزل كان مقرا لقيادة داعش أخلته قبل انتقال عدة أسر إليه؛ هربا من القتال، وكان عدد سكان المنزل 64 فردا قبل تعرضه للقصف خلال معارك استعادة المدينة سنة 2017. فقد ضرب صاروخان البيت، لتشتعل براميل الوقود المخزّنة في القبو، وتشب النار بالرجال والنساء والأطفال، وسمع صراخهم لساعتين متتاليتين قبل حلول صمت مخيف، حيث أخلي بعض الجرحى، بحسب أحد الجيران، الذي رصد عظاما بشرية في بقايا المبنى، ولم يتم العثور على نحو خمسين جثة مطلقا.
دمار واسع
كتب كامل: «تحدث سكان الحي عن الوطأة النفسية الثقيلة على صحتهم العقلية والبدنية بسبب الجثث الباقية تحت الأنقاض، وصار المنزل يمثل خطرا صحيا، ومأوى للكلاب السائبة ووكرا للأفاعي والعقارب والحشرات». ويشير الى تهدّم ثمانين بالمئة من الموصل القديمة، مع تسوية أحياء بكاملها مع الأرض. «تبدو منطقة الشهوان وكأنها خلفية لفيلم يصوّر أحداث الحرب العالمية الثانية، فالدمار مفزع، مع تكدس سيارات محترقة فوق أطنان من أكوام المنازل المهدمة، وبقايا عظام بشرية».
بطبيعة الحال، هذه الأمور تبقى عالقة بأذهان سكان مخيمات النزوح داخل محافظات نينوى والأنبار، لكن هناك صدمات أخرى. فقبل ست سنوات، تم تلقين العديد من الأطفال على أفكار عصابات «داعش» في المدارس، وشاهدوا آباءهم يقتلون أو يختفون، كما إن الذين ولدوا أثناء حكم «داعش» لم يتم الاعتراف بهم من قبل السلطات حتى الآن، وهم حاليا لا يملكون وثائق ثبوتية. يقول كاظم: «نحن بحاجة الى جيش من علماء النفس والأطباء النفسيين لترميم الدمار، إذا يمكن ترميمه. الكثير من هذه الجهود ليست على أجندة الحكومة، ونحن نتكلم عن مجتمع متقرّح بشكل حقيقي».
وبحسب تقرير صدر خلال أيلول من العام الماضي عن جامعة براون الأميركية، أنتجت حروب الولايات المتحدة بعد أحداث 11 سبتمبر 37 مليون لاجئ ضمن مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وافغانستان خلال العقدين الماضيين. وبحلول سنة 2007، ترك نحو خمسة ملايين شخص ديارهم، ومع اجتياح «داعش» سنة 2014، أرغمت مليوني شخص على ترك مناطقهم. ومع عودة غالبية المغادرين، ما زال هناك مليون مهجر تقريبا، وتدمرت منازل معظم القاطنين في المخيّمات حاليا إما من قبل عصابات «داعش» أو نتيجة لعمليات التحرير اللاحقة أو على أيدي جيرانهم، بحسب ماغنير.
 
قانون العشيرة
أغلب سكان مناطق داعش لم تكن لهم علاقة به، لكنهم ضحايا للثقافة القبلية التي تفضي بدفعهم ثمن العلاقات المباشرة، أو حتى غير المباشرة، الى عصابات «داعش» أو المتمردين، الذين تخلّوا عن ولائهم لما يسمى «بالدولة الاسلامية». «إذا ارتكب فرد ما جريمة أو خرق القانون، فينبغي على كامل العشيرة دفع الثمن، وهذه هي العقلية القبلية»، بحسب ماغنير، ومن يدفع الثمن بعد ذلك هم الأطفال والنساء وكبار السن، وحتى الأطفال المولودين أثناء حكم «داعش». يقول أحد عمال الاغاثة: «إن اخراجهم من المخيّمات على أمل عودتهم لديارهم سيكون كارثيا، فلا توجد هناك أية خطط ولا ضمانات».
بحسب المنتقدين، فإن تغير النظام الأميركي جعل العراق يعيش حالة اختلال وظيفي ودمار نفسي أكبر مما كان عليه سابقا. وبوسعنا فرك أيدينا الى أن ينسلخ الجلد عنها، لكن الحقيقة، مثل الوشم، لا يمكن إزالتها على نحو تام. يقول فان بورين: «لطالما تنصلنا عن الدمار الذي تسببنا به، من حرق غابات جنوب شرق آسيا بسلاح العامل البرتقالي، وتحويل بلدان منتجة الى دول فاشلة، مثل ليبيا وسوريا والعراق التي تجرأت على الاعتراض على الامبراطورية الأميركية، وحينما يتحدث جو بايدن عن الحاجة الى قيادة أميركية عالمية، ربما ينبغي عليه أولا التحدث إلى من تركناهم خلفنا مسبقا».
ويشير كاظم الى أن مهمته تتمثل في اعادة توجيه اهتمام واشنطن بالعراق، واستهداف توسيع المعونات الأميركية الحالية بشكل أكثر ستراتيجية ومباشرة. ومن دون ذلك، سترغم الحكومة العراقية، التي تواجه حاليا ضعف اقتصادها، على وضع موضوع النازحين ومعاناتهم جانبا.وترتفع تقديرات اعادة البناء الى 150 مليار دولار. يقول كاظم: «لا يملك العراقيون موازنة مالية تصل لهذا الحجم، ومرت أكثر من سنتين على هزيمة «داعش» ولم نلحظ أية مساعدات ذات قيمة منحت لأجل إصلاح الدمار.. أعتقد أن الناس سيفعلون حسنا للاهتمام بهذه الحقائق غير المؤلمة».
 
موقع ريسبونسبل ستيتكرافت الأميركي
*كيلي فالهوس مستشارة قديمة لدى معهد كوينزي ومحررة مساهمة مع موقع ريسبونسبل ستيتكرافت