عندما خاضت بنغلاديش الحرب بسبب اللغة

بانوراما 2021/01/30
...

انيربان ماهاباترا
ترجمة: بهاء سلمان
كانت “أروما دوتا” في أوائل عقدها الثالث حينما تم اعتقال جدها، “ذيريندراناث داتا”، من منزلهم بمدينة كوميلا في ليلة آذارية مشؤومة سنة 1971 كانت تلك أوقاتا عصيبة تعيشها ما كانت تعرف آنذاك بمقاطعة شرق البنغال المدارة من قبل باكستان، وتسمى أيضا باكستان الشرقية.
فقد انطلقت حركة استقلال ساعية لفرض الإنفصال عن الحكم الباكستاني لغرض كسب زخم سريع بين سكان المنطقة، الذين يتحدثون اللغة البنغالية، لتشن السلطات حملة عسكرية ساحقة لاستئصال أبرز القادة الانفصاليين المشتبه بضلوعهم بدور كبير في الحركة. كان ذيريندراناث داتا؛ على رأس قائمة المطلوبين من الرجال، وغالبيتهم أعضاء بارزون من النخبة البنغالية المثقفة، ومات هذا الرجل لاحقا متاثرا بالتعذيب الممارس من قبل معتقليه.
وبعيدا عن كونه مجرد سلوك للتطهير الفكري، شكل موت داتا سياقا خطيرا. “لقد قررت الحكومة منذ زمن بعيد أنه يجب على داتا أن يقدم حياته ثمنا لدفاعه عن اللغة البنغالية،” بحسب رأي حفيدته، التي توصف حاليا بأنها أهم ناشطة في ميدان حقوق الانسان، وتضيف: “لم يقبل مطلقا بالمساومة على طلبه بفرض اللغة البنغالية كإحدى اللغات المشتركة لباكستان، وهذا الأمر لم يلق استحسان غالبية أعضاء الحكومة الذين لم يعيروا أي احترام حقيقي للغة البنغالية”.
ضمن سجلات أحداث تاريخ جنوب آسيا، كانت سنة 1971 بالغة الأهمية، ففي الأشهر التالية لوفاة داتا، قامت قوة عسكرية وحشية بكبح حركة التحرر مما نتج عنه ابادة جماعية مخزية حصدت أرواح الملايين، وفر نحو عشرة ملايين لاجئ الى الهند المجاورة، محفزين جورج هاريسون ورافي شانكار على تأليف وتنظيم حفلة موسيقية لأجل بنغلاديش في مدينة نيويورك خلال شهر آب من ذلك العام. وفي نهاية المطاف، يوم 16 كانون الأول من العام نفسه، وبعد طرد القوات الباكستانية خلال حرب التحرير، ولدت دولة بنغلاديش بسيادة منفصلة، والتي عرفت نفسها حصريا بلغة شعبها.
 
الشرارة الأولى
لقد زرعت بذور الوطنية البنغلاديشية على مدى أكثر من عشرين عاما من اضطرابات ثقافية سبقت الحرب، فقد بدأت القصة سنة 1948، مع داتا، بطبيعة الحال. وبحضوره اجتماعا لتأسيس الجمعية الوطنية (البرلمان) بمدينة كراتشي الباكستانية في شباط من ذلك العام، ولكونه عضوا منتخبا في الجمعية من باكستان الشرقية، قدم داتا طلبا جديا للاعتراف باللغة البنغالية كلغة رسمية
للبلاد. 
كان منطق داتا بسيطا، حيث قال موضحا أسبابه أمام التجمع الحاضر: “من أصل 69 مليون فرد يقيمون في هذه الدولة، باكستان، يتحدث 44 مليونا اللغة البنغالية.. فبالتالي يا سادة، ما هو المفروض أن تكون لغة
البلاد؟”
كانت الحجة حول هذا السؤال البلاغي صحيحة، غير أنها لم تنجح بأن تلقى صداها لدى الجمعية؛ وكانت السلطة الادارية للبلاد تتمركز في الجانب الغربي، حيث يتحدث السكان هناك عدة لغات، مثل البنجابية والاوردو أو البشتو، ولكن ليس البنغالية. علاوة على ذلك، وكرد شامل على القالب اللغوي المعقّد لباكستان، تبنت الحكومة قانونا يفضي بتسمية الاوردو كلغة رسمية للبلاد، رغم تجاهل هذا القرار لأغلبية المواطنين المقيمين شرق البلاد.
وبعد رفض طلب داتا داخل الجمعية بفترة قصيرة، زار محمد علي جناح، الحاكم العام لباكستان، اقليم الباكستان الشرقية وألقى خطابا حاسما في جامعة دكا، قائلا: “لغة الدولة الرسمية ستكون الاوردو، وليس أية لغة أخرى، وأي فرد يسعى لتضليلكم فهو حقا عدو باكستان.”
ومع التفضيل الواضح للغة الأوردو على البنغالية، أطلق خطاب جناح شرارة غضب شعبي واسع بين أبناء قومية البنغال القاطنين شرق البلاد. وشهدت المنطقة على مدى السنين القليلة التالية أمواج من انتقاد شعبي يرفض سياسة الحكومة بخصوص اللغات، قبل أن تصل الى ذروتها سنة 1952. تقول دوتا: “صبيحة يوم 21 شباط من ذلك العام، ومع احتدام الجدل السياسي المقاد من قبل داتا داخل البرلمان المحلي لدكا حول الاعتراف باللغة البنغالية، تجمع آلاف الطلاب والناس البسطاء بالقرب من الحرم الجامعي
لإطلاق تظاهرات احتجاج شعبية”.  
 
أحداث متلاحقة
ورغم انطلاقها كتجمع سلمي، بدأت الأحداث التالية لذلك اليوم تخرج عن السيطرة مع مضي الوقت، لتفسح تظاهرة منظمة الطريق أمام فوضى شديدة الاهتياج، مجبرة الشرطة على فتح النار على الجموع
الحاضرة. 
قتل أربعة طلاب، لتعقب وفاتهم انطلاق المزيد من الهيجان المدني، لينتج عنها وفيات أكثر وأضرار لما يعتقد بشكل واسع كونه يمثل هيمنة ثقافية للدولة على سكانها من الاصول البنغالية.
وبالعودة الى أحداث ذلك اليوم، يتفق المفكرون الكبار لبنغلاديش أن موجات الاحتجاج لسنة 1952، اضافة للأشخاص المساهمين في احداثها، لعبت دورا محوريا في صياغة والشروع بتمهيد الطريق لاستقلال بنغلاديش. “تبوأ الكثير من نشطاء اللغة  طليعة المرحلة التكوينية لحركة اللغة، ومن ضمنها الدور المهم للشهيد داتا بكل المقاييس،” بحسب المراقب الاكاديمي والسياسي “وحيد الزمان مانيك” عبر مقالته المنشورة في صحيفة ديلي ستار البنغلاديشية سنة 2014.
وفي بيان مكتوب صدر سنة 1994 حينما كانت زعيمة للمعارضة داخل البرلمان، نوّهت رئيسة الوزراء الحالية “شيخة حسينة” إلى أن “أساس المشاعر الوطنية التي رسختها حركة اللغة قد أدت في نهاية المطاف إلى صياغة كفاح بنغلاديش نحو الاستقلال، وتلك الحرية تحققت في النهاية مقابل أرواح ثلاثة ملايين شهيد من الرجال، وكرامة مليوني إمرأة انتهكت حرماتهن”.
من الصعب تجاهل ثمن باهظ بهذا الحجم، وحتى بعد أربعة عقود، تواصل بنغلاديش تذكر أبطالها وتكريمهم. ويشخص حاليا نصب وطني يطلق عليه “شهيد منار” بصمت مهيب داخل حرم جامعة دكا، لتقديم الامتنان لجميع شهداء بنغلاديش الذين قدموا تضحيات عظمى للوطن الأم، من أمثال 
داتا. 
 
* مجلة اوزي الأميركية