أيلين آكنز
ترجمة: أنيس الصفار
«عندما كانت بولي طفلة .. حين كانت تفكر كالاطفال .. كان العالم مكاناً مائعاً يتشكل بلين وسلاسة»، هكذا تبدأ رواية «جيمي هاريسون» الجديدة. مؤخراً «صار يتراءى لبولي أن عقلها نهر يجري بلا توقف تفيض مياهه باستمرار فتمسح الضفاف ثم تهدأ .. يتلاشى باستمرار لكنه يبقى ممتلئاً بتفاصيل، تلتمع للحظات ثم تتبدد». الحد الفاصل بين «ما كان» و»الان» هو اصابة في الرأس .. من بعدها «غدا العالم شديد الهشاشة على نحو مخيف.. المركز تداعى .. ذلك الدماغ المعتل الذي كانت بولي معجبة به انهار وتفتت».
تقع أحداث رواية “مركز الأشياء جميعاً” في ولاية مونتانا.. أجل، فهنالك نهر يشقها هي أيضاً اسمه نهر “يلوستون”، جميل وغادر ولكن مياهه المفعمة بالاستعارات المجازيَّة تحملنا لتعبر بنا الزمن. بولي بأعوامها الاثنين والأربعين – وتعمل متعهدة حفلات ومحررة ومراجعة نصوص، كما أنها أمٌ لطفلين وزوجة نيد المحامي– تحاول لملمة شظايا الأشياء وجمعها معاً لعلها تستطيع التمييز بين الذكريات والأحلام .. لعلها تتذكر ما الذي وقع قبل سنوات.. أو بالأمس.. أو في الدقائق العشر الأخيرة. وإذ تحاول تثبيت الزمن، او التثبت منه على الأقل، ثمة حدثان يوجهانها في مسعاها .. ويوجهان حبكة الرواية. الحدث الأول هو حفل ميلاد شقيقة جدتها الصارمة “مود” بمناسبة بلوغها التسعين، حيث أوكل الى بولي أن تتولى تحضيرات الحفل. الحدث الثاني هو حادثة غرق “أرييل”، ابنة البلدة الشابة المحبوبة، حادثة وقعت في ظروف ربما تحوم حولها الشكوك.
الحفل، الذي جمع اكثر من جيل معاً، فتح خزائن ماضٍ عائلي يفيض بالخفايا والاسرار، وحادثة الغرق، باصدائها التي تجاوبت مع ماضي العائلة، أخرجت بعض تلك الاسرار الى السطح. ربما كان هناك انسجام كبير بين ماضي الاحداث وحاضرها، وهذا هو الذي يعطي الرواية نسيجها وقوامها. لكن على ضوء أعمال جد بولي الأكبر، الذي كان منقباً ذائع الصيت في عالم الاساطير، قد نستطيع أن نرى في تلك الصدف انعكاسات تصاميم فنية أوسع وأشد تعقيداً من مجرد تشابكات فروع لشجرة عائلية واحدة.
طبيعة عمل والدها هي الأخرى تملأ قصة بولي بأناس يتقمصون ادواراً رائعة لشخصيات مثيرة: كتّاب وفنانون ومؤرخون ومعتوهون يتخللون بسعة خيالهم وغموض أفكارهم وغرابة اطوارهم الموحية خارطة بولي العقلية بألوان تتشعع وأضواء تتلألأ. في الواقع أن كيفية تفكير بولي .. باطفالها وطفولتها .. بذكرياتها وتخيلاتها .. بظروفها الراهنة ومكانها في العالم .. وحتى بالاطباق الشهية التي تجيد إعدادها (ثم باتت تخطئ فيها أحياناً) هي التي تسبغ على هذا الكتاب عناصر جاذبيته وتشويقه.
تطوف برأسها أفكار: “في الماضي كانت شديدة التركيز على الاشياء، أما الان فإن الصور تتوالى عليها وتدور حولها أحياناً، حتى عندما تغلق عينيها ثمة ذلك الشريط من الالوان والاشكال التي لا يحكمها نسق او نظام، جميل عادة ولكنه مخيف أحياناً، وإذا ما حاولت حصر تركيزها في لوحة أو صورة فوتوغرافية وجدت نفسها بداخلها مثلما كان يحدث لها وهي طفلة .. كانت تشعر وكأن عينيها تستطيعان النفوذ عبر السطوح: الأرض .. النهر .. الستائر المسدلة .. واللحم.”
تحملنا بولي معها مستحضرة حياة غنية بنسيجها، رائعة في اغلب الاحيان، كل يوم من أيامها خسارة واشتياق وتأملات لا تنتهي، الى ذلك المكان “حيث يضيع كل شيء ولكنه يواصل الحياة، الى حين على الأقل، في مملكة صغيرة هي رأسي”، كما تقول بولي. رواية هاريسون في حقيقتها تأخذ راويتنا المتأرجحة اليقين الى عالم جديد بالكامل هو “مركز الأشياء جميعاً”.
عن صحيفة “واشنطن بوست”