د. سماء الزبيدي
بدأت باختلاق الاعذار لتجنب المناسبات الاجتماعية المكتظة بالاسئلة، التي لا تملك اجابات عنها اكثر من تزاحمها بالأشخاص، حتى أصبحت تلك الاسئلة تلاحقها في مكان العمل، وهي تسير في الشارع اذا صادفتها إحدى الجارات، التي لم تلتقها منذ فترة، اثناء مكالمة هاتفية مع أحد المعارف، م. ي (30 عاما) بدأت رحلتها مع الاستفسارات عن زواجها بعد اكمال دراستها الجامعية.
وكانت تتردد على مسامعها (شوكت نفرح بيچ؟)، (شوكت نخلص منچ؟)، (كافي طولتيها)، وتخلصت من هذا السؤال بعد ارتباطها وظنت انتهت القصة هنا، لتبدأ رحلتها مع عبارة (ما صار شي؟)، (شوكت نشوف ابنائچ)، (ماكو شي بالطريق؟)، (خاف اكو مشكلة؟)، (راجعتي طبيب؟)، فأصبحت تجيب بالصمت احياناً وبالردود المرنة، التي تحمل بين كلمتها لا أريد التدخل، لكن سياط الألسنة بما تتفوهه من طلبات عن معلومات شخصية، لا تعود الاجابات عنها بأي فائدة معنوية او مادية للسائل لم تتوقف.
فضول
أسئلة تتسيد الجلسات الاجتماعية في مجتمعنا العراقي (متى تتزوجين – تتزوج؟ تعينتِ – تعينت ؟، متى نحمل أطفالكم؟ كم راتبك؟.. الخ) يمكن الا يكون لصاحب الشأن إجابة عنها او لا يود الإجابة عنها لاسبابه الخاصة، الا ان السائل يحاول احياناً استهلاك جميع طاقاته واساليبه لسحب الاجابة ليشعر بالنصر والفرحة، اذا ما حصل عليها او أحرج الطرف الآخر، ورأى الارباك او الخجل على محياه وكانما هي مباراة فيها طرفان يراهن أحدهما على خسارة الآخر، وفي الواقع لا فائدة محققة من المعلومات المنتزعة بالقوة، سوى اشباع فضول داخلي في معرفة كل شيء عن حياة الآخرين، ومن الناحية السلوكية النفسية فإن من يطرح الاسئلة بالعادة قد تعرض الى الرفض والاقصاء ويحاول بطريقة خاطئة التقرب من الاخرين بطرح هذه الاسئلة، لإشباع شعور داخلي بانه ليس وحيدا في محنته وارضاء لذاته بانه يملك معلومات عن كل شيء وان لم يكن يخصه.
أحاديث للنقاش
كثيراً ما تتحول المعلومات الخاصة بالأفراد، التي يحصل عليها اشخاص هوايتهم جمع المعلومات عن الآخرين الى مواضيع شيقة للنقاش، واحيانا حديث متدوال تضاف له بعض التفاصيل للمتعة او لزيادة تشويق المستمعين، واحيانا يبادر المستمعون الى مساعدة الشخص المعني بالاكراه، صدم ن.ع (35 عاما) بالنصائح التي انهالت عليه من زملاء العمل بالارتباط وتكوين اسرة، ويقول فجأة بدأت الترشيحات لعروس المستقبل، وحظيت بمستشار مالي لأرتب أوضاعي المادية، ومستشار نفسي يحاول علاج عقدتي مع الارتباط، التي لم أكن أعلم بها ولا بسبب وصمها بي، على الرغم من أني لم أطلب يد العون، ولم أتحدث الى أحد عن مشكلاتي الشخصية، او أشتكي لأحد ضمن دائرة عملي، والأغرب وجدت نفسي حديثا متداولا، يتهامس به شركائي في العمل!، ويفسر الباحثون في علم الاجتماع هذا السلوك بانه ازدواج سلوكي ينتج عنه عدم احترام خصوصيات الآخرين، في حين تجد من يسمح لنفسه بذلك متكتما بشدة على شؤونه الحياتية.
خلافات اجتماعية
تعكس الاسئلة المتكررة والالحاح فيها في محاولة لانتزاع معلومات شخصية ردات فعل غير مرغوبة، قد تصل الى ردود محرجة من الشخص المعني في محاولة لايقاف الطرف الاخر من التمادي، ما ينتج عنه خلافات اجتماعية وخصاما وخلخلة العلاقات الودية، الا ان مسك العصى من الوسط ورسم حدود واضحة للعلاقة ومساحتها، هو ما يجنب الافراد الوصول الى هذه المرحلة، ويؤكد ولي جليل الخفاجي (باحث الاجتماعي) : الاستمرار في هذا السلوك واحترام خصوصيات الآخرين تجبر الطرف الاخر على تجنب تخطي عتبة حياة المقابل، وان تجاوز الاخير هذه العتبة يكون الرد باسلوب الازاحة، تجنب الردود المباشرة واللجوء الى أجوبة مرنة توضح عدم الرغبة في البوح بتفاصيل خاصة لتجنب الخشونة او التوتر في العلاقات.
المبالغة في الكتمان
يمكن ان يلجأ بعض الاشخاص الى الحرص المبالغ فيه والمبالغة في كتمان حياتهم الشخصية، وقد يحملهم ذلك على الكذب واختلاق الاعذار او الخلافات لتجنب ان يعرف المحيطين به حدث في حياتهم، من دون يسأله أحد او يتدخل في خصوصياتهم، ويعود ذلك الى سلوك أفراد الاسرة، فقد يربى الاطفال على عدم السماح لهم في التعبير عن آرائهم والتحدث عما بداخلهم من دون الشعور بالحرج أو الخوف، من أهم الأسباب التي تعمل على إنشاء أشخاص مصابين بمرض الكتمان، حيث أن تخزين المشاعر داخل الشخص منذ صغره وعدم قدرته على البوح بها ينمي لديه نوع من أنواع الخوف من الحديث عن شعوره، حتى يظن أنه أمر لا يجوز، عدم وجود أشخاص مقربين أو مستمعين جيدين بجانب الشخص يجعله غير قادر على التحدث عما بداخله، ظناً منه أن هذا الشعور والاستياء الذي بداخله غير مهم بالنسبة لمن هم حوله، ويمكن ان يعود السبب الى النشأة في مجتمع متقلب وكثير الخلافات ما يدفع الفرد الى التكتم لتجنب التعرض للمشكلات.
الخصوصية في حقوق الانسان
تعد خصوصية الفرد واحترامها حقا من حقوقه الطبيعية، فعرفها القاضي الاميركي لويس برانديس عام 1890 بانها "ترك المرء وشأنه"، وعبر عنها الن ويستون استاذ القانون في جامعة كولومبيا عام 1967 "رغبة الاشخاص في ان يختاروا بملء ارادتهم الظروف، التي يتم بموجبها الكشف عن انفسهم ومواقفهم وسلوكهم اتجاه الاخرين "وأقر احترام الخصوصية في قوانين الكثير من الدول المتقدمة كجزء من حق الفرد، والتي تترتب عليها حقوق اخرى من هذه الدول (الولايات المتحدة، الدنمارك، كندا)، وعلى المستوى المواثيق الدولية فان المادة 17 من العهد الولي للحقوق المدنية والسايسية لعام 1966 "لن يخضع احد ما الى التدخل العشوائي او غير القانوني في خصوصيته، او اسرته او مراسلاته ولا يمكن ان يتعرض لهجوم غير قانوني على شرفه او سمعته".