عندما يأكلنا الغضب

منصة 2021/02/07
...

نهى الصراف
 
الغضب انفعال مؤقت، حلقة في سلسلة طويلة من ردود أفعالنا المباشرة على الضغوطات النفسية، التي نواجهها في حياتنا اليومية، لكنها حلقة رقيقة جداً يمكنها أن تتداعى تدريجياً، فتتحول إلى خيط سلك رفيع تكفيه شرارة بسيطة، ليشتعل ويفك ارتباطه بالسلسلة الطويلة، فتنفرط معه بقية الحلقات، لعلها تكون بداية لأزمة نفسية يصعب تلافيها أو تجاوز عتبتها الأولى الأشد 
خطورة.
 في طفولتي، كنت أصاب بنوبات غضب بسيطة في أوقات متباعدة، في الأغلب تكون أسبابها غير منطقية وأحياناً مضحكة؛ أخسر في مباراة رياضية مع رفيقات اللعب، تفوتني مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة المفضلة، بسبب النسيان وربما تغضبني هدية عيد ميلادي، التي لم تأت على مقاس توقعاتي، في منتصف نوبات الغضب تلك، كانت أمي- رحمها الله- تعطيني كيساً كبيراً من الجزر وتطلب مني أن أقشر وأبشر ثمراته، يستهويني هذا العمل كثيراً، وكنت أتقبل الواجب من دون اعتراض فأقشر الجزرات بحقد حتى النهاية، ثم يا للعجب، يزول غضبي ويتلاشى مثل دخان سيجارة، لأحصل بعد ذلك على صحن لذيذ من حلوى 
الجزر!
اليوم، هناك الكثير من الأسباب التي تعمل كأبواب مشرعة يمكنها أن تستقبل سيولاً من حمم الغضب، هوايتنا المفضلة للتمرد على الواقع، الحيلة الوحيدة، التي نضعها نقاباً على وجوهنا نحتمي بها من ضعفنا وقلة حيلتنا، لكن غضب اليوم لا يشبه غضب الأمس، بالتالي لن يكون في إمكاننا أن نحظى بشخص يحبنا، ويكون على استعداد، لأن يقدم لنا وصفة سحرية من كيس جزر، كما أن أصابعنا المرتجفة لم تعد تقوى على أداء مهمة التقشير، من دون حادثة جرح عرضية. 
ينظر علماء النفس للغضب على أنه شعور طبيعي، ناضج وصحي، لا بأس من أن يمارسه الإنسان في بعض الأوقات، خاصة ما يسمى منه بالغضب "المتأن والمتعمد" ؛ وهو رد فعل على تصور الضرر المتعمد أو المعاملة غير العادلة من قبل الآخرين، التي تستدعي الشعور بالظلم.  الغضب هنا يعد شيئاً ذا قيمة وظيفية، للتخلص من شوائب الانفعالات، التي يتسبب تراكمها في النفس في حدوث علل جسدية ليست بالهينة، بل أن قمع الغضب في بعض الحالات له عواقبه الوخيمة للفرد أو المجتمع عموماً.
مع ذلك، فإن بعض الأبحاث النفسية الحديثة توصي بفاعلية العمل في تبديد موجات الغضب المعتدلة، التي نواجهها في يومياتنا، العمل المنزلي بالتحديد؛ التنظيف والترتيب، مسح أرضية المنزل وتلميع النوافذ بطريقة روتينية أو البحث عن عنكبوت مسكين، نجح في الاختباء في إحدى زوايا المنزل وملاحقته، حتى قبل أن يفكر ببناء بيت وتكوين أسرة، أعمال متواترة مملّة لكن نتائجها مذهلة على الصحة النفسية، هكذا يقول الخبراء.
رغم ذلك، وكلما تقدمت بنا السنوات، فإن الغضب قلما يختفي، حتى لو تطوعنا بأداء وظيفة عمال البلدية وفرشنا الشوارع بالماء والصابون. وبدلاً من ذلك، فإننا سنمضي ساعات المساء ونحن نعاني من آلام المفاصل بسبب العمل الشاق. ️
في الطفولة، نستطيع أن نأكل غضبنا. وعندما نكبر، يأكلنا الغضب ويقرمش 
عظامنا.