إنّ كتابة القصة القصيرة بطريقة التذكارات هي عبارة عن استعادات زمنية في شكل متواليات لفظيّة لأفعال ماضية يتم استرجاعها تتابعيا. ولا تخلو هذه التذكارات في الأغلب من التداعيات الحرّة والنوبات الاستبطانية المتولّدة عن ضاغط نفسي يستثير الشخصية المستذكِرة ويحفّز ذاكرتها فتنهال بالصور والأفكار.
ولم يجعل بول ريكور مصطلح التذكار السردي ـ في كتابه (الزمان والسرد الجزء الثاني) ـ بمعنى الزمن التعاقبي، وإنّما هو الشعور الذي به تنماز الشخصية بالقوة والسلطة من الخارج والهشاشة من الداخل تعبيرا عن تجربة أساسها التأزّم النفسي المتولّد من خوف يتولّد ويغوص حتى لا يكاد يبين إلّا إذا استفزَّ من الداخل وبانت ذكرياته التي هي وحدها القادرة على الغوص في قلب اللحظة الزمنية المستعادة. وعندها ستتحقق الوظيفة السردية التي أولاها ريكور اهتماما نظريا كبيرا بوصفها فعل الكلام الذي له صلة بمشكلة الزمان.
وفي رأينا فإنّ استعمال التذكارات في القصة القصيرة عادة ما يكشف عن حقيقة الشخصية في قوتها وضعفها أمام الحياة وتبدلاتها والكيفية التي بها تعاملت مع الآخرين بإيجاب أو واجهتهم بسلبية.
والفارق بين التذكارات والمذكرات نوعي. فأمّا التذكارات فكتابة فنية تصلح للقصة القصيرة كونها تستلُّ من حدث محدد استنهضته من سباته نوبة استذكار طارئة جاعلة منه محورا لموضوع عام سيطلعنا على سرٍّ دفين محفور وغائر في دواخل الشخصية التي ترك فيها ذلك الحدث بصمة بايومترية لا تفارق وعيها ليكون بمثابة الوشم الذي يُغرس في الجسيمات والجزيئات حتى لا تستطيع الروح منه فكاكا.
وهذا ما نجده في القصة القصيرة (الفلقة) لخلف شوقي أمين الداودي التي نشرت في العام 1928 بحسب د. عبد الإله أحمد في كتابه (نشأة القصة وتطورها في العراق) وفيها يحتل المُلا القديم موضع القلب من التذكار الذي تدلّنا عليه عتبة استهلالية يكشف فيها السارد كلي العلم عن نيته في سرد حدث مستل من عهد الطفولة والصبا كان قد أودع في ذهن رجل خانته ذاكرته ونسي بعض الحوادث التي مرت عليه، لكنه لم ينس "ذلك اليوم الذي مسكه فيه والده من يده وذهب به إلى مكتب المُلا محمد علي.. وكان إذ ذاك في الثانية عشرة من عمره".
وخصوصية الحدث المستذكر ومحدوديته تتوسع لتكون تذكارا لجيل كامل عاش في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين فكان جيلا ملقَنا تتلمذ على الفلقة بوصفها أداة عقاب جسدي فتعلم بسببها ضروبا من العلم والأدب، وينتهج القاص مذهب الواقعية النقدية موجها اللوم إلى هذا النوع من السلوك التعليمي المتعسّف في طرائقه والجائر على الطفولة والمتعدي على طبيعتها التلقائية البريئة. وبسبب هذا السلوك في التعليم غدت الفلقة سببا من أسباب ازدواجية الجيل وتأزمه النفسي والعاطفي في حياته المقبلة.
وهو ما تعكسه هذه القصة التي فيها الفلقة تذكار سردي عالق بوعي الشخصية / الصبي (ش) الذي قضَّ مضجعه رعبه من الفلقة وجعله يتأزم، وهكذا انقلبت حياته شقاء دائما وبدل أن يغرس الدرس في نفسه حب العلم غرست الفلقة فيه الخوف والذعر، حافرة وجودها في وعيه ولا وعيه كأثر لا يُمحى حتى أن تعاقب الزمن لم يستطع طمسه.
وبسبب ذلك كلّه تغاضى السارد كلي العلم عن إعطائه اسما يدل على كينونته الإنسانية التي لم يحتج التدليل عليها سوى حرف واحد لا غير، كتدليل لساني يحتمل تأويلات مختلفة منها أن شخصيته ليست لها ملامح بسبب انسحاقها تحت هول الوجل والارتعاب أو لأن السكوت قبولا وخنوعا يعبر عنه بصوت الشين (أش) أو ترميزا إلى الحرف الأول من اسم والد الكاتب (شوقي) أو رغبة في جعل الشخصية لغزا وعلى القارئ أن يحل هذا اللغز كي يعرف مصير الشخصية.
وتغدو عبارة (لك اللحم ولي العظم يا مُلا) هي محور التأزم وأساسه ولذلك يكررها السارد أكثر من مرة داخل القصة في توكيد ضمني أن التلميذ مأمور والمعلّم هو الآمر "راح يعدو إلى المُلا لا حبا بالدوام ولا طمعا في تعلّم الكتابة، وإنّما خوفا من أن يأخذ المُلا اللحم ويترك العظم لأبيه"، كما أسهم توظيف اللغة المحكية العامية في تعزيز شعور الشخصية بالتأزم (شنو؟ ما شاء الله من هالمال حمل جمال) أو (جيب تنكتك) أو ( اقرأ ولك ملعون).
وكشف استغوار السارد في بواطن الشخصية عن تداعياتها اللاواعية التي أدت دورها في إظهار اهتزاز الشخصية الداخلي "كان يهذي في نومه خوفا من الفلقة" بينما عمل التصوير الخارجي على رسم صورة مغايرة للشخصية، فالصبي لا يتخاصم مع أحد ولا يلعب في الطريق ولا يسبح في النهر وهذا التضاد ما بين الخارج المتزن والداخل المأزوم هو الذي سيضفي على حياة الصبي (ش) ازدواجا يجمع فيه بين إحساس مهشّم في الداخل وشعور مستقر من الخارج.
والنتيجة أن لا المعلم الماسك بالفلقة ولا التلميذ الواقع عليه فعلها سيكونان متزنين داخليا وخارجيا، فالمعلّم يظل خائفا من أن يؤدي تقدم الصبي في التلقين إلى التفوق عليه، كما أن الصبي يظل متوجّسا من فلقة المُلا، وبالشكل الذي يعني أن ليس وراء الخوف والتوجّس سوى القلق وعدم الاستقرار. وكان لظهور شخصية كليكل الخلفة واستعماله (التمغة) أثر في تدعيم خنوع الصبي أمام المُلا والتسليم لجبروته. وقد دعّم التذكار لمكانين محددين هما البيت والمدرسة عملية تكثيف الزمن السردي الاسترجاعي حتى بدا التأزم واحدا فيه الشخصية تتظاهر بالاتزان وأنّها قوية بينما هي مهزوزة من الداخل يملؤها الخوف والوجل.
ووطد الاتجاه الواقعي النقدي انجاز الوظيفة السردية، موجها النقد إلى طريقة التلقين الببغاوي داعيا إلى التفكر الذي ينبغي أن يكون هو حجر الزاوية في أي ارتقاء علمي وتقدم حضاري.
واما ما ذهب إليه د.عبد الإله أحمد من أن التوجه المذهبي في القصة واقعي ساخر، فنخالفه إذ كيف تكون في القصة فكاهة أو هزل والصبي فيها يشقى ويتألم وهو يمر بصنوف من الرهبة مع معلمه الجائر ومساعده المرعب؟! "بانت طلعة المُلا البهيّة فكان سكوت عميق دونه سكوت القبور .. وأمر الخلفة بان يفتش على التمغة فرفعت الأثواب عن السيقان وإذا احد التلامذة بلا تمغة .. فأمره المُلا بتفليقه".
أما كون المقالات الساخرة كانت سائدة في المرحلة التي كتبت فيها القصة فمردود لأنّ كتابة القصة القصيرة غير كتابة المقالة ولأنّ النقد اللاذع الذي يوجهه القاص لنظام التعليم آنذاك ينطوي على قصدية نقدية، ولكون التصوير للنزعة الدكتاتورية للمُلا تنطوي على ترميز سياسي يوحي بأن التفرّد في ممارسة القوة مع الآخرين لن تنفع لا في التربية ولا في العلم ولا في السياسة، ولأن الواقعية النقدية كانت توجه كتابة الروايات في مرحلتها التأسيسية مطلع القرن العشرين.