العباءة الرجاليَّة.. زي دائم الحضور

ريبورتاج 2021/02/09
...


 عواطف مدلول  تصوير : نهاد العزاوي
 
بالرغم من التغير الكبير الذي حصل في جميع مفاصل الحياة ومن ضمنها الازياء، مازالت العباءة الرجالية مفضلة ومطلوبة حتى من قبل الشباب، لا سيما اولئك الذين يبحثون عن الأناقة والذوق، لما تحمله من قيمة جمالية وتراثية في الوقت نفسه، وقد تميز العراق بكونه من اكثر البلدان التي تشتهر بخياطتها وازدهرت صناعتها فيه، لذا لم تخرج عن اطار الموضة بل على العكس تماماً، اذ اقتحمت ذلك العالم بنقشات حديثة واكبت التحضر.  
 
أسعار غالية 
حسن شريف حسين (ابوحيدر) من مواليد 1945الذي تعلم مهنة خياطة العباءة بعمر 15 سنة، وتوارثها مع اخوته عن والده وقد غادروا جميعا الحياة، وبقي لوحده يمتهنها لغاية الان، لكنه لم ينقلها لاولاده لانهم يطمحون الى اكمال دراستهم ولا يستطيعون العمل بها، يقول: "كانت مهنتنا تشهد اقبالا شديدا في الماضي ولسنوات عديدة اندثرت ولكن الان عاودت لتنشط من جديد، فكثر عدد (العبايجية)، فهناك من تعلمها واجاد صناعتها وهناك من اكتفى ببيعها، اذ يعلقها بمحله فقط الاانه ليس خياطا، بالنسبة لنا نحن نخيط ونبيع بالوقت نفسه".
موضحاً "ان هناك انواعاً غالية السعر كالمصنوعة من الصوف المغزول وتصل اسعارها الى مليونين ونصف المليون دينار عراقي، والعباءة الراقية منها تباع بثلاثة ملايين ويلبسها ابناء بغداد وبعض المحافظات خاصة الشيوخ، وحسب طلب الزبون، اذ احيانا هو يجلب القماش الذي يرغب به، ولكن في الاغلب يأخذ منا القماش مع تجهيز خياطة العباءة بشكل كامل".
وعن الانواع المفضلة من الاقمشة يحدد ابو حيدر الصيفي الياباني والصيني والتركي، وأحسن عباءة هي النجفية والحياوية في الكوت وعباءة العمارة ايضا، اما عن الاقمشة التي كانت سائدة سابقاً يضيف"تسمى الاسترالي (النايلي) اذ كانت تأتي من تركيا وايران، والان ايضا هناك استيراد، الا انه اصبح اقل نوعا ما من الماضي، اذ كان حتى البريسم يستورد بوقتها".
 
الأحياء الشعبيَّة
وبخصوص التطور الذي طرأ على العباءة العربية من ناحية العمل، فقد دخلت فيها موديلات حديثة، اذ يشير حسين الى أن "معظمها اخذت من العراق، اذ نعمل نقشات وطلبات جديدة، ولذلك زاد عدد المحال التي اغلبها تتواجد بمحافظة النجف واصحابها هم اصلا تجار يبيعون ويستوردون من زمن الملكية وزمن عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وكان يحضر الناس من مختلف البلدان كقطر والسعودية ودول الخليج لشراء العباءة الصيفية، كونها متميزة في العراق، وحاليا انتشر (العبايجية) في شارع النهر والكاظمية، وهناك محال اخرى افتتحت ايضا في حي العدل، وكذلك بالمنصور الا انها لم تحقق نجاحا ملحوظا في تلك المنطقة، ولم تستقطب الناس اليها، لان العباءة مطلوبة اكثر في الاماكن والاحياء الشعبية والمحافظات كالناصرية، وبعد أن اتسعت الرغبة بارتداء العباءة مؤخرا افتتحت محال في الفلوجة والرمادي، لان اغلب العشائر هناك ترتديها". ويصف ابو حيدر مراحل خياطة العباءة، اذ تدخل بتفاصيل فنية دقيقة كثيرة، لذا فهي متعبة ولا يمكن أن ينجزها شخص واحد انما ثلاثة او اربعة اشخاص، نساء اورجال بالبيت وفي المحل ايضا، من ناحية صقلها وشد قيطانها وحياكتها وغيرها من الخطوات المهمة والضرورية، ويضيف "سابقا كان الجاسبي او الكلبدون اشتغله كله بيدي والان في النجف والناصرية يعملونه باليد ايضا، وحاليا في محلي نعمل التحرير فقط"
 
أمور مكملة
 سمير حسين الذي يسكن بمنطقة الحرية ورث المهنة ابا عن جد من عمر تسع سنوات، يقول: "اشتغلت اولا مع والدي في محلنا بالكاظمية الذي افتتح في التسعينيات، اذ كنت اساعده ببعض الاعمال البسيطة والسهلة، ثم تعلمت البرج اوالكلبدون، وهو من الامور المكملة للعباءة".
موضحاً "تواصلت مع اخي في المهنة ونقوم بعمل التحرير بلون العباءة، ونستخدم فيه خيط البولستر، اما الكلبدون فينجز  في سوق الشيوخ بالناصرية، اذ يخيطونه ونحن نكمل عليه، فعندما يأتي زبون ويريد فصالا معينا نأخذ القياسات والنقشة التي يرغبها ونبعثها للناصرية، ولدينا هناك عمال وحينما تجهز نعمل لها هنا كوياً وقيطاناً وصقلاً (ندكها) حتى تصير متساوية جاهزة، واذا حصل سهو وظهرت القياسات بشكل مختلف ونادرا ما يحصل هذا الشيء، من الممكن معالجتها، فعمل العباءة يتطلب تركيزا ودقة".
مؤكدا ان "السوق لم تعد كالسابق على اثر تغير الزمن وكذلك لارتباط العمل بالدولار، فخلال الارتفاع الذي شهده في الفترة الماضية كل قطعة زاد سعرها عشرة او عشرين دولارا، لان الكلبدون تصاعد سعره هو الاخر كونه فرنسيا ومن الدرجة الاولى". 
ويردف "لدينا وكلاء هناك في فرنسا نشتري منهم حتى الدرجة الثانية ايضا، لذا فان خياطة العباءة الفرنسية مكلفة، فالدرجة الاولى  تكلف 500 الف دينار عراقي او600 الف اما الدرجة الثانية 200 واليابانية 100 الف دينار هذا اذا كانت الخياطة فقط علينا، في حين لو كان القماش من محلنا فان الاسعار تختلف، واحيانا نخيط للمحل (عباءات) جاهزة من دون توصية مسبقة ونعرضها فيه للبيع".
 
سوق بغداد
يرى حسين ان اكثر من يميل الى لبس العباءة الان هم الشباب وبالاخص اولاد الشيوخ وكبار السن، اذ يرتدونها في مجالس العزاء، لكن في وقت انتشار وباء كورونا منعت مجالس العزاء والخروج من البيت والتجمعات، فتوقفنا عن الانتاج اما الان رجعت الامور كالسابق. 
ويضيف "من البلدان التي تشتغل العباءة الان سوريا حتى اضحى عليها اقبال من دول الخليج، ولكن العراقية تبقى الاجود لان السورية مجرد شغل مكائن، حتى نحن صرنا نستورد منهم ايضا، لأننا نقدر الوضع الاقتصادي السيئ لبعض شرائح المجتمع بالبلد، فهناك من يبحث عن الارخص لان امكانيته المادية محدودة، وبالمقابل هناك من لا يلبس الجاهز ويعشق المفصل وبنقشات معينة، مشيراً الى انه قبل 2003 كانت دول الخليج تشتري العباءة من سوق بغداد والشورجة، الا ان تلك المحال اختفت واغلقت بعد سقوط النظام السابق".
 
اللون (الصاجي)
من العناصر الشابة (لم يذكر اسمه) وقد توارث هو الاخر من اسرته مهنة خياطة العباءة الرجالية الى جانب اكمال دراسته في المعهد التقني، لكنه لم يسع للتعيين، يقول: "تمسكت بالمهنة لأني لا اريدها أن تختفي، بالاضافة لكونها باب رزقنا ووجدت نفسي امتلك موهبة بها، وقد عمل معي اخواني بها، لكنهم ابتعدوا عنها لأنها لم ترق لهم لما تحمله من مشقة وتعب وبعض من الصعوبة فهي تحتاج الى الكثير من الصبر".
مؤكدا "في اول مرحلة بالمهنة كنت خياطا وبذلت جهدا بها لمدة 15 عاما، اذ بدأت مع الدراسة احضر للعمل من العصر الى المغرب ثم اعود للبيت، وخلال ايام العطل ابقى طوال النهار فيها، اذ انجز الاعمال البسيطة: (شلالة، بلابل القيطان) الى أن تعلمت أن امسك الابرة ومن ثم العباءة واتقنت خياطتها تماما".
ويضيف عن مدى انتشار العباءة العراقية "بعدما اضحى المجتمع عشائريا وقبليا صار يرغب بها جميع الرجال، ليس فقط من ابناء الجنوب، بل كذلك المنطقة الغربية، اذ ان تعاملنا قوي جدا معهم حتى في سنوات الطائفية، اتصالنا بقي مستمرا معهم، وكنا نلتقي  بهم في اماكن محددة رغم صعوبة الظرف بوقتها، الان عادت الامور طبيعية والحمد لله، اذ غالبا ما تتم الاتفاقيات عن طريق الانترنت، فأصبح التعامل اسهل واوسع، فمن يريد عباءة يبعث صورا بالالوان والنقشات التي تعجبه، وان اللون الشائع حاليا والذي يواكب الموضة هو (الصاجي)".
واختتم قائلا: "اصبحت دول الخليج تقلد ابناء بلدنا في لبس العباءة فالعراقي (رقم واحد ) في اناقة ارتداء الزي العربي الكامل، اذ ان العرب يسمونها (بشت) ويلبسها فقط (المعرس )  في حفل زفافه، كما يرتديها من يتجاوز عمره 60 عاماً، بينما نحن لدينا الشاب بعمر العشرين عاما حينما يدخل الديوان يحب أن يرتديها، وخاصة النوعيات الجيدة منها، لاسيما الصيفية فهي اغلى من الشتوية  وتصل الى ستة ملايين، فالرجل العراقي ذواق جدا مهما كانت امكانيته، اذ لديه استعداد أن يصرف على هندامه ويقصر على نفسه بغير امور في سبيل اناقته، فهي اهم شيء لديه".